نهاية الدولة السعودية الأولى

الكاتب: ولاء الحمود -
نهاية الدولة السعودية الأولى:

نهاية الدولة السعودية الأولى.

 
تقدم إبراهيم باشا، بعد استيلائه على ضرما، في طريقه إلى الدرعية، ونظرًا إلى صعوبة اجتياز جبل طويق، فقد سار عبر وادي الحيسية حتى وصل إلى وادي حنيفة قرب العيينة، ثم سلكه حتى وصل إلى موضع يسمى الملقا يبعد عن الدرعية من جهة الشمال مسيرة ساعة، وبنى معسكرًا لقواته هناك، وكعادته خرج على رأس مجموعة صغيرة من قواته، في جولة استكشافية ليستطلع المكان ويبحث عن أنسب مكان لإقامة معسكر جيشه قرب المدينة، وعندما وصل العلب اشتبكت قواته مع القوات السعودية مما اضطره إلى العودة إلى مخيمه في الملقا  
 
من ناحية أخرى، كان الإمام عبدالله بن سعود منذ انسحابه من القصيم، وهو يعمل على قدم وساق في تحصين عاصمته وزيادة دفاعاتها، وترتيب المدافعين عنها سواء أكانوا من أهلها أم ممن لجؤوا إليها من البلدان الأخرى خوفًا من بطش جيش إبراهيم باشا. قسم الإمام عبدالله بن سعود المدافعين عن الدرعية على شكل مجموعات أو مفارز صغيرة، ووزعهم على المتاريس، وبساتين النخيل، وعلى جانبي وادي حنيفة، وعلى الأبراج الدفاعية، ورتب إمدادات المدافعين بالماء، والغذاء، والأسلحة، وزود كل فرقة من الفرق المرابطة في الأبراج بمدفع، وأسند مهمات الدفاع عن العاصمة إلى عدد كبير من القادة الميدانيين، وقد أورد ابن بشر أسماءهم وكان معظمهم من آل سعود، ومنهم: تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود وأخوه زيد وابنه فهد، وفيصل وإبراهيم وفهد وسعد وتركي أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز. ومن خارج الدرعية ذكر بعض القادة، أمثال تركي بن عبدالله الهزاني على رأس أهل الحريق، وعبدالله بن مزروع على رأس أهل منفوحة، وعبدالله بن أحمد العريني على رأس أهل سدير  
 
وعلى الرغم مما بذله الإمام عبدالله بن سعود ورجاله من جهود جبارة لتحصين العاصمة، فإن طبوغرافية موقعها الجغرافي وشكلها الطولي من الملقا شمالاً حتى عرقة جنوبًا بمسافة تقدر بنحو 20كم   قد زاد من صعوبة الدفاع عنها وذلك لأسباب عدة، منها:
 
 وصف فيلكس مانجان (F. Mengin) الدرعية في ذلك الوقت، وقال: "إنها تضم خمس مدن صغيرة، يحيط بكل منها سور تتخلله على مسافات متقاربة حصون دفاعية متينة"  .  ومما لا شك فيه أن تباعد المسافة بين أحياء البلدة ومواضعها ومزارعها، يجعل إحاطتها بسور واحد أمرًا مستحيلاً، لذا فإن كل حي يحتاج إلى سور مستقل بذاته. ومع ذلك فقد بذل أهل الدرعية جهدًا جبارًا للربط بين أسوار الأحياء بسور طويل يمتد على أطراف الجبال والتلال وفي الوديان، وعلى الرغم مما لاقاه هذا السور من تدمير الحروب وعوامل التعرية فقد صمد ليحكي قصة بطولات الأجداد للأحفاد 
 تباعد الأحياء يقتضي توزيع السلاح والمدافعين عنها، ما يؤدي إلى تشتيت جهودهم وإضعاف التنسيق فيما بينهم.
 مرور وادي حنيفة عبر المدينة من الشمال إلى الجنوب، ما يسهل من مهمة المهاجمين للتسلل عن طريقه أو طريق أحد روافده   إلى أحد هذه الأحياء.
 
في اليوم الثالث من جمادى الأولى 1233هـ / 1818م سار إبراهيم باشا بجيشه سالكًا وادي حنيفة حتى وصل إلى العلب وأقام معسكره هناك، وبدأ يرتب صفوف قواته في مواجهة القوات السعودية، ما بين بطن الوادي وضفتيه. وأخيرًا وجد إبراهيم باشا نفسه خارج أسوار الدرعية، وقد احتشد بها ما تبقى من القوات السعودية التي لم يعد لها من ملاذ بعد أن أصبحت محاصرةً في عاصمتها، والحرب خيارها الوحيد، وبنـزول إبراهيم باشا معسكره الجديد في العلب، اندلعت الحرب بين الطرفين، أو كما قال ابن بشر: "وقعت الحرب بينهم واضطرمت نارها، وطار في السماء شرها وشرارها، فتخاللت بينهم القنابر والقبوس والمدافع، وصار مطرها فوق تلك الجموع متتابعًا، فاشتد بينهم القتال وتصادمت الأبطال والحراب بين الروم وبين أهل الدرعية سجال... "  
 
وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى بين الجانبين، فقد استبسلت القوات السعودية في الدفاع عن رمز البلاد وعاصمتها، وتركز القتال في بداية الأمر على الجهة الشمالية من البلدة، تواصلت الحرب يومًا بعد يوم وجرى عدد من الاشتباكات والمعارك الطاحنة، ومن أشهرها معركة المغيصيبي التي جرت بعد اندلاع القتال بعشرة أيام، كانت الإمدادات العسكرية تصل تباعًا من مصر إلى إبراهيم باشا، ولذا واصل حصاره الشديد للمدينة، واستمرت المعارك الضارية بينه وبين السعوديين، مثل: معركة الحريقة، ومعركة غبيراء التي كثر فيها القتلى من الطرفين، واخترقت صفوف المدافعين واضطروا إلى التراجع، بل وهرب بعضهم خارج الدرعية  
 
بعد هذه السلسلة من المعارك بدا واضحًا رجحان كفة جيش إبراهيم باشا ليس من حيث نوعية التسليح وتفوقه فحسب، بل وكذلك من حيث المعلومات الاستخباراتية عن الاستحكامات وخطوط الدفاع السعودية، في المقابل أخذت قوات عبدالله بن سعود تضعف شيئًا فشيئًا وينقص سلاحها، وما زاد الطين بلةً خروج بعض أهل الدرعية، بعد معركة غبيراء، وإخبار إبراهيم باشا بنقاط الضعف في صفوف المدافعين. ومن المؤكد أنه استثمر هذه المعلومات في المعارك المقبلة، لذا ركز هجومه على الجهتين الشمالية والجنوبية من المدينة، واشتبك مع القوات السعودية في معركة سمحة التي كثر فيها القتلى من الطرفين، ولم تتمكن القوات السعودية من إيقاف المهاجمين إلا عند النخل المعروف بالسلماني.
 
أعاد أهل الدرعية ترتيب صفوفهم الدفاعية ووزعوا قواتهم على المتاريس التي بنوها في بطن الوادي وعلى ضفتيه، وكذلك فعل إبراهيم باشا، فقد أعاد تمركز قواته بعد الانتصارات التي أحرزها، ونقل معسكر قواته إلى قرى قصير قرب الأحياء السكنية المهمة، تواصلت المعارك وتجدد القتال بشكل عنيف وصفه ابن بشر بأنه "لم ينقل مثله عن الأواخر والأوائل... وتطايرت القبوس والقنابر في الجو كأنها رجوم الشياطين... "  .  حصار خانق، وحرب ضروس أنهكت قوى الدرعية والمدافعين عنها، وعلى الرغم من ذلك، فقد صبروا وقاتلوا في ظروف تزداد سوءًا مع مرور كل يوم، حتى إنهم في بعض الأوقات لا يعلم من يقاتل في جهة معينة بما يحصل في الجهات الأخرى، وفي الوقت ذاته كان محمد علي في مصر يمد ابنه بالقوافل الجديدة من العساكر والسلاح والذخائر، والتموينات الغذائية.
 
ومع أن أهل الدرعية تمكنوا من إخراج جنود إبراهيم باشا من نخل السلماني الذي احتلوه سابقًا، إلا أنهم منوا بعدد من الهزائم في البليدة التي حصلت بها موقعتان متتاليتان، ثم وقعة في شعيب قليقل، وفي محاولة لتشتيت جهود المدافعين ونشر قواتهم في أكثر من مكان والتضييق عليهم من الناحية الجنوبية، أرسل إبراهيم باشا فرقة من جيشه إلى عرقة، حيث دارت معركة عنيفة هناك قتل فيها من أهل عرقة نحو ثلاثين شخصًا وهرب الباقون إلى الدرعية، فاستولى الجنود على البلدة وأضرموا النيران فيها.
 
وبينما هذه المعارك تدور في كل مكان، مُني جيش إبراهيم باشا بنكسة قوية تمثلت في انفجار مخزن الذخيرة والبارود ولكن السعوديين لم يستغلوا ذلك بهجوم قوي على جيشه، أو كما قال ابن بشر: "وهربت العساكر في رؤوس الجبال ووقع في قلوبهم الرعب وكانت هذه وهنًا عظيمًا على الروم (أي جنود إبراهيم باشا)، وهمَّ أهل الدرعية أن يحملوا عليهم في خيامهم ويدهموهم فيه فلم يفعلوا، وكان أمر الله مقدورا"، ولهذا استطاع أن يتغلب على هذه المشكلة بالاعتماد على السلاح الأبيض والاقتصاد في الذخيرة إلى أن وصلته الإمدادات من مصر والبصرة والزبير، وحتى من بعض المناطق في نجد  
 
وعلى الرغم من البسالة التي أظهرها السعوديون في الدفاع عن عاصمتهم شبرًا شبرًا، إلا أن كل معركة يخوضها جيش إبراهيم باشا تجعله أقرب إلى هدفه وتزيد صعوبة موقف المدافعين، استمر القتال بين الطرفين وازداد الضغط على السكان وأخذ اليأس يدب في نفوسهم، وارتفعت الأسعار، وتواصلت المعارك، مثل: وقعة كتلة، وعدد من الوقعات الأخرى في قرى عمران، ووقعة في الرفيعة، بالإضافة إلى ذلك، فقد منح إبراهيم باشا الأمان لمن يخرج من أهل الدرعية، فخرج منها كثير من الناس، ولكن خروج رئيس الخيالة والتحاقه بإبراهيم باشا أضر كثيرًا بالجبهة الداخلية من الناحيتين العسكرية والمعنوية، وتمكن إبراهيم باشا، عن طريق المعلومات التي حصل عليها من رئيس الخيالة وغيره، من معرفة مواطن القوة والضعف في صفوف أهل الدرعية وتحصيناتهم.
 
أدرك إبراهيم باشا أن الفرصة مواتية للإجهاز على ما تبقى من جيوب المقاومة، فشن هجومًا قويًا على البلدة من جهاتها الأربع، وتمكنت فرقة من جيشه من الدخول من جهة مشيرفة، واصل ضغطه وحمي الوطيس واعتصم أهل الدرعية كل يدافع عن منطقته، واعتصم بعض المدافعين بقصر غصيبة المنيع،  فسلط مدفعيته على ذلك القصر، وتمكن جنوده من اجتياح بعض الأحياء ودخلوا المنازل، كان الإمام عبدالله بن سعود ومن معه من الأعيان، يراقب هذه التطورات المؤلمة من موقعه بين باب الظهرة وباب سلمان، ولذا ترك معسكره وانتقل إلى منـزله في الطريف، لم يُضع إبراهيم باشا فرصته، فانتقل بجنوده ومدافعه واحتل معسكر الإمام عبدالله بن سعود، وواصل ضغطه وقصفه للمدينة، ودخل جنوده حي السهل واستولوا على بعض البيوت والنخيل، فكر بعض أهل السهل في الصلح، ورد بعضهم الآخر، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بأنه لا صلح قبل إخراج الجنود، فشمروا عن سواعدهم وقاتلوا قتالاً يشيب من هوله الولدان وتمكنوا من إخراجهم، وقد روى ابن بشر نقلاً عن أحد المشاركين قوله: "لو حلفت بالطلاق أني من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني لم أطأ إلا على مقتول لم أحنث"  
 
بعد هذا الإنجاز المهم للمدافعين في حي السهل، دارت مفاوضات حول الصلح باءت بالفشل، لأن المفاوضين من أهل الدرعية يطالبون بالصلح على البلد كلها، ولكن إبراهيم باشا رفض الصلح إلا على حي السهل فقط، أو أن يحضر الإمام عبدالله بن سعود. استمر القتال وركز إبراهيم باشا هجومه، مستخدمًا كل ما لديه من أسلحة، على حي الطريف من جهاته الأربع، وصمد الإمام عبدالله بن سعود وقاوم ورماهم بالمدافع مدة يومين، حتى تفرق عنه كثير ممن حوله، وحينها أدرك أنه لا جدوى من المقاومة التي قد تضر بالنساء والولدان والأموال، ورأى أن يجعل نفسه فداء، فطلب الصلح وخرج للتفاوض مع إبراهيم باشا في معسكره  ،  وكان ذلك في يوم 8 من ذي القعدة 1233هـ الموافق 9 من سبتمبر 1818م، وقد تم الصلح بين الطرفين على الآتي:
 تسليم الدرعية لجيش إبراهيم باشا.
 يتعهد إبراهيم باشا بأن يبقي على الدرعية، وألاّ يوقع بأحد من سكانها.
يسافر عبدالله بن سعود إلى مصر، ومنها إلى إستانبول عملاً برغبة السلطان العثماني  .
 
وبعد الصلح بيومين أُرسل الإمام عبدالله بن سعود مع بعض رجاله إلى مصر، إذ قابل واليها محمد علي في القاهرة، ومن هناك أُرسل إلى عاصمة الدولة العثمانية وحوكم محاكمة صورية هو ومن معه، ثم "طافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون، وقتلوا أتباعه أيضًا في نواحٍ متفرقة فذهبوا مع الشهداء"  
 
وأخيرًا تمكن إبراهيم باشا من إنهاء حكم الدولة السعودية الأولى واحتلال المنطقة كلها بما فيها عاصمة الدولة، ولكنه لم يكتفِ بذلك، بل أخذ جنوده يمارسون صنوفًا من العذاب ضد سكانها، خصوصًا ضد الزعماء والعلماء، قال ابن بشر واصفًا تلك الممارسات المشينة: "كانوا يجمعون الرجال من الأسواق، ويخرجونهم من الدور ويحملون على ظهورهم ما تحمله الحيوانات، فيسخرونهم، يهدمون البيوت والدكاكين ويحملون خشبها ويكسرونه ويردون لهم الماء ويحملونه، فلا يعرفون لفاضل فضله ولا لعالم قدره"  
 
أقام إبراهيم باشا بالدرعية تسعة أشهر، ثم أمر مَنْ فيها من آل سعود وآل الشيخ بالرحيل إلى مصر، وقبل أن ينسحب منها جاءته الأوامر من والده بهدم الدرعية، فأخذ الجنود في قطع نخيلها وأشجارها وأشعلوا النيران في بيوتها. ومن الصدف العجيبة أن الضابط البريطاني ج. ف. سادلير مر بالدرعية بعد أشهر من تدميرها، في مهمة لمقابلة إبراهيم باشا، وكأنه جاء ليسجل شهادته على فظاعة ما فعله جيش الأخير بتلك المدينة الجميلة، إذ يقول: "وصلنا إلى موقع حطام الدرعية في الحادية عشرة قبل الظهر... كان الدمار واسعًا جدًا، ويدل على موقع مركز المدينة المدمرة بقايا الأسوار المؤلفة من تراب أصفر وقد غطت الحجارة قسمًا منه... هي الآن في حالة دمار كامل، ولقد محا إبراهيم باشا أسوار الحصن بشكل كامل وأتلف مزروعات النخيل والحدائق، لم أشاهد ولو رجلاً واحدًا خلال بحثي عبر الحطام كله" 
 
شارك المقالة:
247 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook