مملكة الأنباط بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
مملكة الأنباط بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

مملكة الأنباط بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
 
الأنباط هم شعب عربي تركز استيطانهم في بادئ الأمر في المنطقة الواقعة جنوب البحر الميت، واتخذوا من البتراء في شرق الأردن حاضرة لهم، ومع مرور الوقت تزايدت مواردهم الاقتصادية وقوي نفوذهم السياسي، ما أدى إلى اتساع نطاق رقعة أراضيهم الجغرافية حتى شمل في أوج ازدهار الدولة النبطية المنطقة الواقعة بين الحجر (مدائن صالح في شمال غربي المملكة العربية السعودية) جنوبًا وحتى دمشق شمالاً.
 
وعلى الرغم من اتفاق الدراسات العلمية الحديثة على عروبة الأنباط كما دلت على ذلك أسماء أعلامهم  ،  إلا أن ثمة نقاشًا ما زال لم يحسم بعد حول الموطن الأصلي للأنباط، ومن أي مكان في جزيرة العرب كانت هجرتهم الأولى إلى مناطق استيطانهم المبكر في شرق الأردن، فبعضهم يرى أنهم من قبائل جنوبي الجزيرة العربية التي اضطرتها ظروف العيش بعد انهيار سد مأرب في القرن الخامس قبل الميلاد إلى ترك أمكنتهم الأصلية والهجرة إلى شرق الأردن  ،  وثمة من يعتقد أنهم هاجروا من المناطق الشمالية الغربية للجزيرة العربية  .  وبعضهم الآخر يرى أنهم قدموا من منطقة الأحساء في شرقي المملكة العربية السعودية  ،  وآخرون يعتقدون أنهم اتحاد قبلي تشكل من القبائل المستوطنة لمنطقة جنوب الأردن  ،  وهناك من يرجح أن الأنباط قبل هجرتهم كانوا يستوطنون المنطقة الواقعة بين حائل شمالاً والقصيم جنوبًا  
فالآراء متباينة في تحديد الموطن الأول للقبائل النبطية، ما يجعل ترجيح أي منها أمرًا صعبًا خصوصًا في ظل غياب دليل مادي ومقنع يحدد موطنهم الأول بدقة غير قابلة للترجيح. ومهما يكن من أمر فالحقيقة الثابتة أن الأنباط ظهروا على مسرح الأحداث التاريخية كقوة منافسة للسلوقيين في بلاد الشام والبطالمة في مصر منذ نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وتعود أقدم إشارة إلى الأنباط في المصادر إلى عام 312ق.م، فقد جاء ذكرهم عند ديودوروس الصقلي   (Diodourus Sicily) في معرض حديثه عن انتصارهم على الملك السلوقي أنتيجونوس (Antigonus) حينما وجه ضدهم حملتين؛ الأولى بقيادة أثينايوس والثانية بقيادة ابنه دمتريوس كانتا تهدفان إلى السيطرة على الأنباط وكبح تزايد نفوذهم السياسي والاقتصادي في المنطقة  ،  ولكن الأنباط تمكنوا من القضاء على أفراد الحملة الأولى، واستطاعوا صد الحملة الثانية، ولعل ما يهم هنا أن نتائج هاتين الحملتين تنبئان عمّا للأنباط - آنذاك - من قدرة دفاعية عن مواطنهم، وأنهم كانوا أمة متماسكة وذات سيادة ونفوذ على مناطق استيطانهم، مكنتهم من الوقوف في وجه السياسة التوسعية للملك السلوقي في محيط نطاق أراضيهم.
 
لقد أدرك الأنباط أهمية منطقتهم والموقع المميز الذي كانت تتبوؤه، ما جعلهم ينصرفون عن حياة الترحال، ويميلون إلى الاستقرار والتركيز على تنمية مواردهم الاقتصادية، وقد ساعدهم على ذلك وقوع مناطق استيطانهم على مسارات الطرق التجارية القديمة القادمة من جنوبي الجزيرة العربية؛ فقد كانت حاضرتهم البتراء في شرق الأردن واحدة من أهم المحطات التجارية في منطقة الشرق القديم، ومما أكسبها تلك الأهمية عنايتهم بها وتشجيع أرباب القوافل التجارية على المرور والإقامة بها، فقد عملوا على توفير الحماية لها، وكذلك توظيف مهارتهم في أنظمة الري وتقنية صناعة القنوات المائية  ،  ما جعل مناطقهم ذات وفرة مائية على مدار العام، واكبتها نهضة زراعية، شجعت تجار القوافل - آنذاك - على المرور والإقامة بها.
 
ونظرًا لتزايد همة الأنباط - آنذاك - في توسيع رقعة نفوذهم الجغرافي وزيادة مواردهم الاقتصادية، فقد جرهم ذلك إلى الدخول في صراعات طويلة مع السلوقيين من جانب والبطالمة من الجانب الآخر  .  بيد أنهم على الرغم من ذلك حافظوا على استقلالهم، حتى بدأ الضعف يدب في مملكتي السلوقيين في بلاد الشام والبطالمة في مصر، ما أسهم في ازدياد قوة الأنباط. وفي ضوء أدلة المصادر التاريخية المعروفة - حتى الآن - فإن الأنباط غيروا في نمط نظامهم السياسي من المشيخة القبلية إلى النظام الملكي، ففي نحو عام 170ق.م بدأ ظهور لقب ملك عند الحديث عن الأنباط في المصادر التاريخية، فكان أول ملوكهم الحارث الأول الذي نعت في سفر المكابيين باسم طاغية العرب  ،  ومن بعده تعاقب على حكم الدولة النبطية مجموعة من الملوك بلغ عدد المعروف منهم - حتى الآن - أحد عشر ملكًا، وعلى الرغم من أن ثمة تباينًا فيما بين الدارسين حول ترتيب سنوات حكم بعض ملوك الدولة النبطية  ،  فإن المرجح في ضوء ما تنبئ عنه نقوشهم المكتشفة - حتى الآن - أن فترات حكمهم جاءت على النحو الآتي:
 
الحارث الثاني 120 - 96 ق.م؛ عبادة الأول 96 - 87 ق.م؛ رب إل الأول 87 ق.م؛ الحارث الثالث 87 - 62ق.م؛ عبادة الثاني 62 - 59ق. م؛ مالك الأول 59 - 30 ق.م؛ عبادة الثالث 30- 9 ق.م؛ الحارث الرابع 9ق.م - 40م؛ مالك الثاني 40 - 70م؛ رب إل الثاني 70 - 106م.
 
وتذكر مصادر التاريخ النبطي أن حكام الدولة النبطية منذ الحارث الأول دافعوا عن سيادتهم على مناطقهم، واتسمت علاقاتهم مع القوى المحيطة بهم تارة بالصراع المسلح، وتارة أخرى بالعلاقة السلمية  ؛  ففي عهد الملك النبطي الحارث الثالث الذي حكم من عام 87 - 62 ق.م شهدت الدولة النبطية توسعًا جغرافيًا لم تشهده من قبل، فقد تمكن في نحو عام 80ق.م من ضمّ دمشق وأدخلها في نطاق مملكته، وكان يواكب توسع مملكة الأنباط باتجاه الشمال توسع نحو الجنوب، فمن المرجح أن بداية النفوذ النبطي في شمال غربي الجزيرة العربية يعود إلى فترة حكم الحارث الثالث  ،  ذلك النفوذ الذي توطد خلال فترة حكم عبادة الثاني ومالك الأول ليشمل الحجر (مدائن صالح) كأقصى مكان وصلته سيطرة الأنباط السياسية نحو الجنوب  ،  ومنذ فترة حكم عبادة الثالث الذي حكم من عام 30 ق.م - 9ق.م، ثمة إشارة في المصادر الكلاسيكية تؤكد على تبعية الحجر (مدائن صالح) للدولة النبطية، فقد أشار الكاتب الروماني (سترابو) في معرض حديثه عن حملة أليوس جالوس العسكرية على جنوبي الجزيرة العربية   إلى أن المنطقة الواقعة جنوب مدائن صالح كانت تحكم من شخص نبطي اسمه الحارث، كما أشار أيضًا إلى أن الحملة بعد فشلها في تحقيق أهدافها الاستعمارية كرَّت عائدة بمن تبقى من جنودها، ومرَّت وهي في طريقها إلى مصر بالميناء النبطي (إجرا) على البحر الأحمر  .  ويتضح من رواية النقوش النبطية وبخاصة تلك النقوش الثلاثة التي كشف النقاب عنها في تيماء وجاء فيها ما نصه:
 
 النقش الأول   معناه: (مسعود ملك لحيان كتب هذا النقش).
 
 النقش الثاني   معناه: (مسعودو).
 
 النقش الثالث   معناه: (مسعود ملك لحيان).
 
إن سيطرة الدولة النبطية على المنطقة كانت تدريجية، فمضمون النقوش الثلاثة أعلاه يشير بوضوح إلى أن الأنباط في البداية مارسوا ضغوطًا سياسية على مملكة لحيان السابقة لهم في حكم منطقة العلا وتدخلوا في شؤونها، ما مكنهم من تنصيب شخص موالٍ على رأس هرم المملكة اللحيانية نبطي الأصل، أو متأثر بالثقافة النبطية، الأمر الذي مهد لهم القضاء على مملكة لحيان في نحو النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد.
 
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الأسباب وراء توسع الأنباط نحو الجنوب واتخاذهم من مدائن صالح في منطقة المدينة المنورة مركزًا ثانيًا لدولتهم؟
 
في ضوء السياق التاريخي للأحداث التي شهدتها المنطقة يبدو أن ثمة أسبابًا جوهرية جعلت الأنباط يمدون نفوذهم نحو الجنوب ويتخذون من الحجر (مدائن صالح) مركزًا من مراكز قواهم الرئيسة، لعل من أبرزها:
 
 هدف اقتصادي، فالحجر كانت - آنذاك - محطة رئيسة على مسار الطرق التجارية القديمة.
 
 هدف إستراتيجي، حفزه تزايد ضغوط الإمبراطورية الرومانية على الأنباط في الشمال، ما جعلهم يتوجهون نحو الجنوب لإيجاد ملاذ بعيد إلى حد ما عن مطامع الرومان.
 
ويشير تعدد النقوش النبطية التي كشف النقاب عنها في الحجر (مدائن صالح) وتنوع موضوعاتها إلى تزايد أهميتها لدى الدولة النبطية، خصوصًا منذ فترة حكم الحارث الرابع العام 9ق.م - 40م، فقد عثر على عدد من النقوش النبطية مؤرخة في فترة حكمه  ،  ليس ذلك فحسب، بل إن أهمية الحجر عند الدولة النبطية تبرز من خلال قيام الملك النبطي الحارث الرابع بسك عملة نبطية باسم الحجر  .  والواضح من خلال نقوش الحجر النبطية أن ملوك الأنباط لم يتخذوا من الحجر (مدائن صالح) مركزًا لحكومتهم يديرون منه شؤون البلاد فحسب، بل أسندوا مهام شؤونها إلى حكام وولاة لإدارتها نيابة عنهم.
 
والنقوش النبطية التي كشف عنها في منطقة الحجر تؤكد ذلك، فالعديد منها يحمل أسماء أولئك الحكام  ،  وتنبئ مضامينها عن أن منصب الحاكم في الحجر كان وراثيًا  ،  وتتركز مهامه في أمور تتعلق بإدارة المنطقة من شؤون عسكرية ومدنية، ففي أحد نصوص مقابر الحجر نص معناه:  
 
1- هذا القبر الذي أنشأه ترصو القائد
 
2- ابن تيم لنفسه ولزوجته بنت
 
3- عبدعدنان ولعبد رب إل وتيم أبنائه ولأولادهم وذريتهم
 
4- وورثتهم من اليوم هذا إلى الأبد........، القبر
 
5- هذا........... وأبناؤه
 
6- يشتري أو يبيع أو يمنح......
 
7- وأي إنسان يبيع القبر هذا أو يكتبه (لأحد) عطية، فعليه أن يدفع
 
8- لحاكم الحجر ألف قطعة حارثية ومثلها لسيدنا مالك الملك
 
9- (تم ذلك) في شهر طبت سنة عشرين وأربع (من حكم) مالك الملك، ملك الأنباط
 
وينبئ مضمون النص، خصوصًا عبارة (ل ا س ر ت ج ا د ي هـ وا ب ح ج ر) في السطر الثامن من النقش، أن منطقة الحجر كان يقوم فيها حاكم محلي ينوب عن الملك النبطي، يلقب في النقوش باسم (أ س ر ت ج ا)، أي الحاكم، ومن مسؤولياته المباشرة تولي رعاية شؤون المجتمع المحلي وحفظ حقوقهم. فالنقش يشير إلى أن من يتخطى التشريع المنصوص عليه في متن النقش يعاقب بدفع ألف عملة حارثية للحاكم نفسه، ومثلها للملك النبطي. وإن تساوي الغرامة المدفوعة للأسرتجا والملك النبطي يشير إلى مدى النفوذ والصلاحية التي كان يتمتع بها من يتولى مهام الحاكم (أ س ر ت ر ج ا) في الحجر.
 
وفي ضوء رواية نقوش الحجر النبطية فإن حاكم (ا س رت ج ا) الحجر كانت مسؤولياته تتعدى رعاية شؤون المجتمع المدني في المنطقة إلى الإشراف المباشر على الوجود العسكري النبطي في الحجر الذي دللت النقوش النبطية على وجوده بكثرة في المنطقة، فقد ورد في نقوش الحجر النبطية ألقاب عسكرية متعددة معروفة منها - حتى الآن - لقب (ه ف رك ا)، أي (قائد الجيش)  ،  ولقب (ك ل ي ر ك ا)، أي (رئيس الحامية)  ،  ولقب (ق ن ط ر ي ن ا)، أي (القائد)  ،  ولقب (س م ي ف ر ا) أي (حامل الراية)  ،  ولا ريب في أن تكرار ورود مثل هذه الألقاب في نقوش الحجر النبطية ينبئ عن أن الدولة النبطية أولت اهتمامًا متزايدًا للحجر، ما جعلها تركز عددًا من فيالق الجيش النبطي في تدعيم وجودها السياسي هناك وحماية مصالحها الحيوية فيه.
 
استمرت الحجر منطقة خاضعة لسيادة الدولة النبطية منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد حتى فترة حكم الملك (رب إل) الثاني، تلك الفترة الزمنية التي تزايد فيها النفوذ الروماني في المنطقة، ما أدى في نهاية الأمر إلى إصدار الإمبراطور الروماني تراجان 98 - 117م أمره بالقضاء على استقلال الدولة النبطية في عام 106م وضمها تحت ما عرف - آنذاك - باسم الولاية العربية (Provincia Arabia)  .  وعلى الرغم من قضاء الرومان على حكومة الأنباط المركزية، ما ترتب عليه زوال نفوذهم السياسي والعسكري في منطقة الحجر وشمالي الجزيرة العربية، فإن الوجود الشعبي النبطي والثقافي في الحجر نفسها وفي المناطق الواقعة إلى الشمال منها ظل كما كان في السابق، ويشهد على ذلك تلك النقوش النبطية المؤرخة من القرن الأول حتى القرن الرابع الميلادي   في منطقة الحجر، ولكن هذا لا يعني أن الشعوب الموجودة - آنذاك - في منطقة الحجر كلها من الأنباط، بل إن ثمة إشارة مصدرها نقوش المنطقة نفسها تؤكد على أنه بجانب انتشار النقوش النبطية، هناك عدد كبير من النقوش العائدة إلى الفترة الزمنية نفسها كتبت بخط ثمودي، بل إن نقش (رقوش) كتب بخطين، خط نبطي - عربي مبكر - وخط ثمودي  ،  ما يعني أن الثموديين كانوا - آنذاك - أيضًا من العناصر الشعبية المكونة لسكان المنطقة.
 
ومنطقة مدائن صالح بعيد زوال السيادة النبطية عليها كانت تدار من قبل زعماء محليين، ففي نقش نبطي مؤرخ من النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي نص معناه:  
 
1- هذا الشاهد والمقبرة التي أنشأ
 
2- عدنان بن حبي بن سموإل رئيس (حاكم)
 
3- الحجر لمونة زوجته بنت
 
4- عمر بن عدنان بن سمو إل
 
5- حاكم تيماء التي ماتت في شهر
 
6- آب سنة مئتين وخمسين
 
وتنبئ رواية النص أعلاه أن الحجر مثلها مثل تيماء كانت شؤونها في القرن الرابع الميلادي تدار من قبل شخص لقب بمنصب (رئيس الحجر)، اسمه عدنان بن حبي بن سموإل (السموأل عند الإخباريين العرب)، ويتضح من مضمون النقش أن ثمة علاقة أسرية بين حاكم الحجر وتيماء، وقد تكون أسرة سموإل التي جاء ذكرها في المصادر العربية هي التي تفردت بزعامة المنطقة بعد زوال السيادة النبطية عنها.
 
شارك المقالة:
93 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook