ملامح الأعمال اليومية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
ملامح الأعمال اليومية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

ملامح الأعمال اليومية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
كانت الغالبية العظمى من سكان الباحة فلاحين ورعاة. وكانت الأسر أسرًا منتجة، تعتمد على نفسها في إنتاج غذائها ومعظم أدواتها وما تتطلبه الحياة اليومية، وكان الناس لا يشترون من الأسواق إلا القهوة والسكر والشاي والأقمشة وبعض المستلزمات الضرورية الأخرى. ولهذا كان الجميع يعملون بهمة ونشاط، وكان الأطفال ينضمون إلى قوة العمل وهم في سن مبكرة، فهم يساعدون في رعي البهم (صغار الغنم)، ويساعدون في المزارع في تنقية الأرض من الحشائش والنباتات غير المرغوبة.
 
وكان سكان القرى يستيقظون مبكرين لأداء صلاة الفجر، والنساء يقمن بإعداد القهوة بعد الصلاة مباشرة، إذ يُسمع صوت النجر  (الهاون) وهو يصِلُّ في كل بيت. وبعد تناول الفطور ينطلق الناس إلى أعمالهم، ومع بزوغ الشمس ترى انطلاق الناس والحيوانات من أغنام وأبقار وجمال وحمير إلى الحقول، وإلى الجبال ومناطق الرعي، وفي تلك اللحظات تتعالى وتختلط الأصوات، وخاصة أصوات الدواب، وتنتشر الأغنام في الأودية والجبال، ويذهب الفلاحون إلى مزارعهم، فإذا كان الموسم موسم حرث فإنهم يبدؤون الحرث بعد ثلاثة أيام إلى أسبوع تقريبًا من سقوط الأمطار، وإذا كان الشخص يملك سانية (ثورين) فإنه يقوم وحده بحرث مزارعه، وإذا كان الفلاح لا يملك إلا ثورًا واحدًا فإنه يتعاون مع فلاح آخر، وتُسمى هذه العملية بـ (العِصْب، أو المعاصبة). ويحرث الفلاحان كل يوم في مزرعة أحدهما، ويقوم من يكون الحرث في مزرعته بتقديم الطعام والشراب، ويأتيانهما وهما في المزرعة.
 
ويقضي الفلاح كل يومه في الحرث، ويتناول فطوره وغداءه في مكان حرثه، ويواصل الناس العمل كيلا تجف التربة وتذهب البغرة (وهي المياه الموجودة في التربة على إثر الأمطار أو السقاية). وكانت ملكية المزارع تُقدَّر بمدة الأيام التي تستغرقها في الحرث، فيُقال: فلان يملك محرث شهر، وفلان يملك محرث أسبوع أو خمسة عشر يومًا.
 
وأحيانًا تصاحب عمليةَ الحرث أو تسبقها عمليةُ (التبشير) وتعني تنظيف الأرض المراد حرثها من الأحجار التي تتساقط فيها من الجبال المحيطة بسبب الأغنام أو الأمطار أو الرعاة. وتلي عمليةَ الحرث عمليةٌ تُسمى (الدَّمْس) وتعني تسوية سطح الأرض المحروثة بخشبة مسطحة تُسمى (المدمسة) بطول 2م تقريبًا وعرضها نحو 30سم، وتجرها الثيران بحبلين يصلان إلى (الضمد)، ويصعد عليها الفلاح ليعطيها ثقلاً يمكِّن من تسوية الأرض.
 
وإذا كانت الأرض التي تم حرثها تُسقى بالسواني - ويُسمى هذا النوع من المزارع (المسقوي) - فإنها لا بد أن تُقسم إلى مربعات، وتُصنع لها أفلاج توصل الماء إليها، وتُسمى عملية التقسيم هذه (التقصيب)، وكل مربع يُسمى (قصبة؛ وجمعها قصاب)، وعملية التقصيب عملية تقوم بها النساء بأداة تُسمى (المجْنَب، وبعضهم يسميها المقصب)، وذلك بشكل جماعي وتطوعي متبادل في الغالب، وينشدن في العادة أهازيج خاصة تساعد على شحذ الهمم، وإزالة السأم والملل، وأحيانًا يكون سباق بين النساء في هذه العملية. والمزارع التي تعتمد على مياه الأمطار تُسمى (العثَّري، أو العثَري)، وتقابلها عند بعض المجتمعات العربية كلمة (البعلي).
 
وعملية سقي الزرع من الأعمال التي لا يزاولها في الغالب إلا الرجال، وإن كانت الأعراف لا تمنع أن تمارسها المرأة أحيانًا. وإذا كان الرجل هو الذي يقوم بعملية السقي واستخراج الماء من البئر ومتابعة السانية؛ فإن عمل المرأة يتركز في توزيع الماء على الأحواض (القصاب) وتحويله من قصبة إلى أخرى، وتُسمى هذه العملية (التحويل) وبعضهم يسميها (التحريف). وعملية التحويل تحتاج إلى متابعة خاصة كيلا يضيع الماء ويسيح في أمكنة متفرقة، وتحتاج إلى تسهيل جريان الماء، وإزالة العوائق عن طريقه.
 
وقد كانت الحياة القديمة في منطقة الباحة تعتمد بشكل أساسي على المرأة، فهي عمود البيت، وكانت تقوم بأعمال كثيرة شاقة ومضنية داخل المنـزل وخارجه؛ ففي الصباح تستيقظ قبل الجميع لإعداد القهوة، وإعداد الطعام لبقية أفراد الأسرة، والانطلاق بالإفطار إلى زوجها ومن يساعده في المزرعة. وكان الطعام - ومعظمه من الدقيق - يُصنع وجبة وجبة، فتقوم المرأة بالطحن على الرحى، وإيقاد النار، وعجن الدقيق، وصناعة الخبز للإفطار والغداء، و (العصيدة) أو (الدغابيس) للعشاء. وكانت تقدم العلف للدواب والحيوانات المنـزلية، وخاصة التي سوف تُستخدم لعمل زراعي مثل الحرث وسقاية الزرع، وللأغنام والمعز وللبقرة - أو البقرات - التي تعتمد عليها الأسرة في توفير اللبن والسمن، وأما الأغنام فإنها غالبًا ترعى في الجبال، أو حول المزارع إذا كانت أعدادها قليلة. وتقوم المرأة بحلب الحيوانات، وخض (الشكوة)  وهي وعاء مصنوع من الجلد يشبه القربة يُوضع فيه الحليب ويتم نفخه ووضعه على الركبتين وتحريكه يمينًا ويسارًا لتحويل الحليب إلى لبن واستخراج الزبدة والسمن منه. وإذا انطلق كلٌّ إلى عمله فإن المرأة تبقى بعدهم للغسل وتنظيف البيت وترتيبه. وبالإضافة على ذلك كله فهي تقوم بجمع الحطب، وجلب الماء في القِرَب من الآبار، وتساعد في الحصاد.
 
وأما الرجل فمن الأعمال التي يتخصص بها: القنص، وسقاية الزرع بالسواني، والنقل وخاصة نقل المحصول الزراعي من المزارع إلى (الجرين) قرب المنـزل، و (الدياس) وهو الدراس الذي يعني عملية فصل الحبوب عن سنابلها بوساطة حجر كبير من المرو يُسمى (خَوْرَمَة)  يجره ثوران في حركة دائرية في (الجرين)، ويُوضع على فم كل منهما (غُمامة)  لمنعه من الأكل أثناء العمل. وتتركز مهمة النساء في إعادة المحصول إلى الدائرة وقلبه مرة واحدة على الأقل، بوساطة أعواد كبيرة لها شُعب في نهايتها يُسمى واحدها (المرداد)  ويُجمع على (مراديد)، ويشترك الرجال والنساء في عملية التذرية (الذَّراة) وهي رفع التبن المخلوط بالحبوب في الهواء لتقوم الرياح بحمل التبن بعيدًا عن الحبوب لخفته. وتلي هذه العمليةَ عمليةٌ أخرى تُسمى (الغربلة)، إذ يقوم الرجال - أو الرجل وزوجته - بتصفية الحبوب بوساطة الغربال.  وتضع المرأة على رأسها أثناء العمل في الشمس مظلة  مصنوعة من سعف النخل، وهي خاصة بالنساء ويُعاب على الرجل استخدامها.
 
أما رعاة الأغنام - وكانوا يُسمَّون محليًّا (رعيان الغنم) - فقد كانوا من الذكور أو الإناث من سن البلوغ إلى الخامسة والعشرين تقريبًا، وبعض الأسر ذات الوضع الاقتصادي الجيد كانت توظف رعاة لأغنامها، وغالبًا ما يكونون من ذكور الأسر الفقيرة من القرية نفسها أو من القرى المجاورة.
 
 مظاهر الثبات والتغير
 
بمرور الأيام، وبتكاثر استخدام منتجات الصناعة الحديثة بدأ كثير من تلك المهن والأعمال اليومية في الاختفاء، فالأطفال التحقوا بالمدارس، وقلَّت مشاركتهم في رعاية الغنم والبهم (صغار الغنم)، ومن ثم تخلصت بعض الأسر من قطعانها، وتقلصت مهنة الرعي مع الزمن، وخصوصًا في القرى، ومن بقي معه عدد من الغنم أو الإبل فإنه غالبًا ما يستقدم لها راعيًا من الدول الأخرى.
 
وحلت الحراثات والمضخات العاملة بالبنـزين محل السواني، وحلت الدوافير والطباخات والأفران محل الحطب، وأصبح الطحن يتم آليًّا، والماء يُجلب بالسيارات، ثم بالمضخات الكهربائية (الدينموات) من الآبار إلى المنازل مباشرة. وزادت أوقات الفراغ عند الرجال والنساء، ويقضونها غالبًا في الحديث أو الزيارات، أو في مشاهدة التلفاز  . 
 
وقد أدى انتشار المنازل الحديثة إلى اختفاء المهن القديمة المتعلقة بالبناء مثل التقليع، والبناء، والنجارة، واختفت مهنة الحدادة، وضعفت إلى حد كبير الصناعات الفخارية، ولم يبقَ منها إلا ما يُنتج بعض المنتجات التي تُستخدم تحفًا وتذكارًا للحياة الماضية مثل زير الماء، والتنور لصناعة الخبز.
 
واختفت صناعة الوظينة، وصناعات النسيج، وصناعة القطران وإن كانت لا تزال تُمارس في حدود ضيقة لحاجة بعضهم إلى القطران المستخرج من شجر العُتُم (الزيتون) لمعالجة بعض الأمراض الحيوانية، ولوضعه في القِرَب المدبوغة التي لا يزال استعمالها موجودًا في حدود ضيقة جدًّا. وحتى مهنة الزراعة - التي كانت المهنة الرئيسة التي يعتمد عليها السكان في تأمين لقمة العيش - ضعفت ولم تعد تُمارس إلا في حدود ضيقة، وتُعد تهامة من أكثر الأقاليم في منطقة الباحة ممارسة للزراعة إلى اليوم 
 
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook