مقومات الحركة الثقافية في منطقة جازان في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 مقومات الحركة الثقافية في منطقة جازان في المملكة العربية السعودية

 مقومات الحركة الثقافية في منطقة جازان في المملكة العربية السعودية.

 
لعلّ أقدم ما تحمله المكتبة العربيّة من إشارات ثقافيّة إلى جازان هو ما ورد في شعر شاعر الغَزل المشهور أبي دَهْبَل الجمحي (ت 63هـ / 682م)، ويتضمن شعره إشارات إلى جازان ومواطنها، تدلّ على علاقته الحميمة بها وبأهلها. ولا غرو فالأصفهاني يذكر   أن سليمان بن عبدالملك كان قد أقطع أبا دَهْبَل قطيعة بـ (حاذان)، وأغلب الظن أن (حاذان) في نَصّ الأصفهاني ما هي إلا تصحيف (جازان)؛ لأن (حاذان) اسم لا ذكر له في ما تحت أيدينا من كتب البلدان المعروفة، ولأن أبا دَهْبَل يذكر جازان   في شعره ويدعو لها بالسُّقيا، في مثل قوله:
 
ســقى اللــهُ جازانًـا فمـن حَـلَّ وَلْيَـهُ     فكُــلَّ  فَسِــيلٍ مــن سَــهام وسُـرْدُدِ
ومحصولَــه  الــدارَ التـي خـيّمتْ بهـا     ســقاها  فــأرْوى كــلَّ ربــعٍ وفَدْفـدِ
فــأنتِ  التــي كــلَّفتِني الـبِرْكَ شـاتيًا     وأورَدتِنِيْــهِ  فـــانظري أيَّ مَـــوْرِدِ  
وإنه لَيُلمَس من إشارات شعر أبي دهبل أنه تولى منطقة جازان في عهد عبدالله بن الزبير  ،  أو قريبًا منها؛ فهو يشير في إحدى قصائده إلى خروجه من مكة قاصدًا (وادي البِرْك) الذي أشار إليه في أبياته الآنفة، و (البِرْك): مكان معروف باسمه إلى اليوم، وهو من أعمال المخلاف  السليماني   وذلك في قوله:
 
فقلــتُ  لهــا قــد بنْـتِ غـيرَ ذميمـةٍ     وأصبـح  وادي الــبِرْكِ غيثًــا مُدَيّمـا  
بل كأن الرجل قد اتخذ من جازان مُقامًا له ولعائلته في آخر حياته؛ لما يورده الأصفهاني   من إشارته إلى (بَيْش)، فنجده يسوق في أخباره أنه " وقع له ميراث بمصر، فخرج يريده، ثم رجع من الطريق، فقال:
 
اســـلمي  أُمَّ  دَهْبَـــلٍ بعــد هَجْــرِ     وتَقَـــضٍّ  مـــن  الزمــانِ وعُمْــرِ
واذكـــري كـــرّيَ المطــيَّ إليكــم     بعــد مــا قــد توجّـهَتْ نحـو مِصْـرِ
لا  تخـــالي أنِّـــي نســـيتكِ لمــا     أنّ  بَيْشًــا ومــن بــه خـلف ظهْـري
إنْ تكـــوني أنـــتِ المقــدَّم قَبلــي     وأُطَــعْ يَثْــوِ عنــدَ قــبرِكِ قَــبري
ولعل (أُمَّ دَهْبَل) حبيبةَ الشاعر وزوجته التي يخاطبها بهذه الأبيات ما هي إلا (عَمْرة) نفسها التي عشقها شابًّا وتغنّى بها، وهي امرأة قرشية من قومه كان يهواها، وكانت " امرأة جَزْلَةً، يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر والمحادثة، وكان أبو دَهْبَل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، وكانت هي أيضًا محبّةً له... وزعمت بنو جُمَح أنه تزوجها بعد "  .  ولا يُتَصوَّر أن تنشأ هذه العلاقة (الحجازية الجازانية) بأبعادها العاطفية والشعريّة والثقافيّة دون أن تُحدث تلاقحًا في الأفكار وتفاعلاً بين أجواء الحجاز المزدهرة إبّان العصر الأموي، شعرًا وفنًّا وحضارة، وأجواء منطقة جازان المشرفة على حضارة اليَمَن وتراثها. وفي ذلك كله ما أسهم في بثّ بذارٍ لنهضة فكريّة وثقافية مبكرة في منطقة جازان. وإذا عُدَّ الشاعر أبو دَهْبَل نموذجًا بارزًا على قيام تلك العلاقة الحجازية الجازانية، فإن علاقة جازان بالحجاز أشمل، فقد كانت قبائل كنانة منتشرة في مخلاف عَثَّر. ويفيد الهمداني   أن (مخلاف عَثَّر) كان ساحلاً جليلاً وسوقًا عظيمًا شأنُها، ملوكه - مع مدينة (بَيْشَ) وسواها - من بني مخزوم القرشيين ومن مواليهم.
 
أمّا فقدان المدوّن من ذلك كله فمردّه إلى أن حركة التدوين نفسها لم تكن تتعدّى مدن الثقافة المهمة آنذاك إلى الأقاصي من العالم الإسلامي والأطراف؛ ولذلك لم يُعرف من أعلام تلك المواطن إلا من ارتحل إلى مساقط الأنوار الثقافيّة، ولا سيما في العراق، والشام، ومصر، والحجاز، فضاع أكثر مما بقي، واستمر ذلك الضياع حتى في العصور التالية التي شهدت نهضة ثقافيّة أوسع وتواصلاً أدبيًّا أكبر.
 
وشهرة أعلام من صحابة رسول الله _ من منطقة جازان مؤشِّر على طليعية أبناء المنطقة - منذ الصدر الأول للإسلام - في تبنّي النقلة الثقافيّة التي أحدثها الإسلام في جزيرة العرب. وقد كانت قبيلة (حَكَم بن سعد العشيرة) من (كهلان بن سبأ بن يشجب) هي أبرز قبائل جازان في صدر الإسلام، ومنهم أسرة بني عبد الجدّ الحَكَمي التي حَكَمت المنطقة في الجاهلية والإسلام. وممّن يُذكر من صحابة رسول الله _ من أبناء تلك القبيلة: عبد الجدّ بن ربيعة الحَكَمي، وأبو موسى الحَكَمي، وقدامة بن مالك الحَكَمي، وثوبان بن بجدد الحَكَمي، وعبدالعزيز بن الوليد الحَكَمي، أجمعين  .  مضافًا إلى هذا عشرات التابعين، والمحدثين، والعلماء، والأدباء، والشعراء، على مرّ القرون الإسلامية.
 
أمّا ما كان لجازان من تراث قبل الإسلام؛ فعلى الرغم مما يُتوقع مما كان لها من تفاعل ثقافي مع شمال الجزيرة وجنوبها عبر رحلتي الشتاء والصيف، بل من تفاعل حضاري مغرق في القِدَم عبر البحر الأحمر مع خارج الجزيرة العربيّة، في إفريقيا وآسيا، وهو ما يؤكّده بعضُ آثار المنطقة ثقافيّةً أو ماديّةً  ؛  فإن تراث تلك الحقب قد خضع لمنهجية جامعي الأدب واللغة - في القرنين الأول والثاني الهجريّين - الذين توخّوا انتقائية صارمة تخدم أغراضهم في دراسة اللغة العربيّة الفصحى لغة القرآن الكريم، فكان شرطهم الجغرافيّ - الداعي إلى الاقتصار على الأدب في وسط الجزيرة العربيّة - سببًا في إهمال الأدب في أطراف الجزيرة وحواشيها. وهذا يجيب بجلاء عن تساؤل أحد الباحثين إذ يقول: " فأين ذلك التراث الأدبي؟! وقد بحثتُ مخلصًا في ما تحت يدي من المخطوطات وفي بعض المطبوعات، فلم أوفّق إلى العثور على أشعار أو أدب لمنطقتنا قبل القرن الخامس الهجري "  .  إلاّ أنه يقدّر - ولا بدّ - أن لمخلافَي (حَكَم) و (عَثَّر) اللذين اندمجا في حقبة متأخرة من التاريخ في وحدة واحدة باسم (المخلاف السليماني) مأثورًا من الأدب في الجاهلية وقرون الإسلام الأولى.
 
وتتمتّع جازان ببيئة مواتية للنهوض الثقافي؛ فهي معروفة بتنوّع تضاريسها، واختلاف مناخاتها، وخصوبة تربتها، وغزارة أمطارها الموسميّة، وتدفّق مياهها من العيون والأودية، ولا سيما واديها الذي أكسبها اسمها الحديث (وادي جازان)، والممتدّ من أعالي جبال رازح ومواطن خولان حتى مصبّه في البحر الأحمر، وهذا ما مَنَحَها تميّزَها الزراعيّ والرعويّ؛ فهي من أكثر مناطق الجزيرة في ذلك خصبًا وإنتاجًا  .  هذا إلى صناعاتها البحرية وتجاراتها الداخليّة والخارجيّة. وقد كانت لجازان أسواقها، وكانت لها عملاتها المستقلّة، ومنها (الدينار العَثَّريّ) الذي سكّه أميرها سليمان بن طرْف الحَكَمي الذي وحّد مخلافي حَكَم (من الشَّرَجة جنوبًا إلى صَبْيا شمالاً) وعَثَّر (من شمال صَبْيا إلى حَمْضَة)، وحَكَمَه في الفترة التي بين عامي 373 و 393هـ تقريبًا / 983 و 1003م، وسُمّي المخلاف السليماني باسمه. وقد ظل الدينار العَثَّريّ متعامَلاً به في جنوب الجزيرة عمومًا، حتى بعد زوال آل طرْف بأَمَد  .  ولئن صحّ القول إن ازدهار الأدب لا يصحب بالضرورة ازدهار الزراعة والحضارة والعمران والاقتصاد، فلا مراء في أن لا حضارة بلا حركة ثقافيّة وفكريّة مواكبة.
 
وتُعدّ منطقة جازان من المراكز المهمّة التي كان لها القِدْح المعلّى في ثقافة الجزيرة العربيّة خلال القرون الإسلامية الوسيطة 399 - 1199هـ / 1009 - 1785م  .  وقد ظلّ التفاعل الثقافي الحميم بين المراكز الثلاثة (الحجاز، واليَمَن، وجازان) ممتدًّا عبر التاريخ إلى الوقت الراهن  .  ولمّا كانت جازان ذات مكانة حضارية وثقافيّة مهمّة فإن غنائم من كان يغزوها ما كانت لتخلو من الكُتُب النفيسة، كما حدث - في غضون ذلك التجاذب السياسيّ بينها والحجاز - من إغارةٍ عليها شنّها شريف مكة محمّد بن بركات الأول سنة 882 - 884هـ / 1477 - 1479م  .  وفي الآثار التاريخية الكثيرة في جازان شواهد على تلك المكانة الحضاريّة والثقافيّة التي كانت تتبوؤها المنطقة. ولعل ما لم يُكتشف من تلك الشواهد أكثر ممّا اكتُشف، وربما أهمّ؛ فجازان لاتزال أرضًا بكرًا، لم تمسسها بعدُ أيدي المنقِّبين من الآثاريّين بما تستحقه من بحث، رغم شواهدها الظاهرة على ما تخبّئه أرضها من ماضٍ حضاريّ  .  ومن بقايا تلك الآثار - على سبيل المثال - آثار مدينة (جيزان العليا) وهي مدينة تاريخية  ، كانت تُعرف أيضًا بـ (الدَّرْب) أو (دَرْب النجاء)  .
هذا فضلاً عن الآثار الأخرى التي عرّج عليها الرحّالة من عرب وعجم وسجّلوا عنها مشاهداتهم  ،  ومنها تلك القائمة في جُزُر فَرَسان، بأصولها المغرقة في تاريخها القديم، العربيٍّ وغير العربيّ 
 
وقد ظلّتْ جازان في العصور الإسلامية - كشأنها قبل الإسلام - همزة الوصل بين اليَمَن والحجاز، ومحطة السالكين بينهما، وكان من أولئك كثير من العلماء، والأدباء، والتجّار، والفضلاء، ومنهم من يحْلو له المقام فيها، فتستفيد منه المنطقة في نشر الثقافة. ومن أسباب ذلك ونتائجه - في آن واحد - تلك الأسر العلميّة العريقة في المنطقة، وما تمتّعت به ثقافتها من انفتاح معرفيّ  .  ويؤكّد ما أحدثه ذلك كله من توقّد فكريّ وازدهار أدبي توالي تاريخ منطقة جازان الثقافي (المدوّن منه على الأقل) منذ القرن الخامس الهجري، أي منذ أن برزت في ميدان الشعر أسماء شعراء مثل: علي بن محمّد التهامي   وأحمد بن علي التهامي، وعمارة الحَكَمي اليَمَني، وابن هُتَيْمِل، وأحمد بن جناح الضَّمَدي، ومنصور بن سحبان، والجرّاح بن شاجر الذَّرَوِيّ، وصولاً إلى الحسن بن عاكش الضَّمَدي في القرن الثالث عشر الهجري  
 
شارك المقالة:
125 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook