مراحل الانصهار الثقافي في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
مراحل الانصهار الثقافي في المملكة العربية السعودية

مراحل الانصهار الثقافي في المملكة العربية السعودية.

 
 
1 - المرحلة الأولى:
 
يمكن القول إن بدايات الانصهار الثقافي بدأت أولى خطواتها في المجتمع السعودي في عهد الملك عبدالعزيز إذ تبنى سياسة وبرامج التوطين لسكان البادية في الهجر.ونتج من توحيد المملكة واستقرار الأمن فيها توسع مجال الهجرة بين الأقاليم طلبًا للعلم، أو العمل، أو العلاج، أو التجارة. كما ساعد دخول السيارات في حياة الناس على تسهيل التنقل بين المناطق على الرغم من محدوديته ووعورة الطرق في ذلك العهد. ومع التوسع في انتشار السيارات فيما بعد كانت السيارات الكبيرة (سيارات النقل العام وشاحنات النقل) تقوم بدور مزدوج هو نقل الناس ونقل البضائع، كما قام السائقون في تلك الحقبة الزمنية بدور بارز في كسر العزلة الاجتماعية وتقريب المسافات بين الأقاليم؛ ولذا فقد تمتعوا في تلك الحقبة بحظوة اجتماعية كبيرة، فقد كانت تُعَد لهم ولمساعديهم - الذين كان يُسمى الواحد منهم (معاوني أو معاون) - في كل مكان يقفون فيه غرفة خاصة وطعام خاص دون مقابل في الغالب. وقد كان السائق - إضافة إلى عمله في نقل الركاب والبضائع - يقوم بدور ساعي البريد في نقل الأخبار والرسائل بين الأقاليم.
 
 
2 - المرحلة الثانية:
 
ساعد تنقل السكان بين مناطق المملكة في بداية ما يمكن أن يُطلَق عليه (الانصهار الثقافي الداخلي) على ازدياد معارفهم وخبراتهم، فقد بدأ أبناء المناطق يتعرفون إلى ثقافات الأقاليم الأخرى، كما استقر بعضهم خارج الإقليم الذي ينتمون إليه، مما ساعد على كسر الحواجز الثقافية والانتماءات القبلية.وتتمثل مظاهر الانصهار الثقافي الداخلي أيضًا في هذه المرحلة في محاولة المهاجرين التحدث بلهجة أكثر عمومية، أو محاكاة لهجة المنطقة التي قدموا إليها، وكذلك التخلي عن ارتداء أزيائهم الشعبية المحلية التي اعتادوا ارتداءها في مناطقهم والاتجاه إلى ارتداء أزياء أكثر عمومية، أو محاكاة الأزياء الشائعة في المنطقة التي هاجروا إليها.
إن مرحلة الانصهار الثقافي الداخلي كانت خطوة مهمة أفسحت المجال أمام المواطنين في المجتمع السعودي من كل المناطق لتقبُّل الثقافات الأخرى والتعرف إليها، وتقبُّل الآخرين والتعايش معهم فيما بعد، وقد كان هذا التقبُّل ضرورة اجتماعية وثقافية في ذلك الوقت، وقد مهدت الطريق لتقبُّل السكان المحليين للثقافات الوافدة من خارج المملكة في مراحل لاحقة.
 
3 - المرحلة الثالثة:
 
أما المرحلة الثالثة من مراحل التمازج والانصهار الثقافي في المجتمع السعودي فهي مرحلة تأثير الثقافات العربية في الثقافة المحلية. وقد بدأت هذه المرحلة مع بداية انتشار المدارس والمستشفيات والمستوصفات الطبية في أنحاء المملكة، فقد كان جميع العاملين تقريبًا في تلك المنشآت من الوافدين العرب عمومًا، إذ قَدِمت أعداد كبيرة منهم بعد تحسن الأوضاع المعيشية في المملكة، وظهور البرامج التنموية ليعملوا في مختلف المنشآت المعمارية والتجارية.وقد أدى قدوم الجاليات العربية إلى المجتمع السعودي إلى إيجاد ثقافات خارجية وافدة كان لها تأثير عميق في عدد من الجوانب الاجتماعية والثقافية في المجتمع المحلي.وقد تزامن قدوم الجاليات العربية إلى المملكة مع بداية البث الإذاعي والتلفازي فيها، وقد أسهمت الأفلام السينمائية والبرامج العربية في نشر اللهجات العربية الأخرى وتعريفها لمعظم شرائح المجتمع.ويُعد هذا الأمر من العوامل الرئيسة التي أسهمت في تأثر اللهجات والثقافات المحلية بمفردات وعناصر ثقافية خارجية. ولم يقتصر التأثر بالثقافات العربية على المدن الكبرى بل امتد ليشمل القرى والهجر وحتى النائية منها، وذلك عن طريق المدرسين الذين قدموا للتدريس فيها.كما اقتضت ظروف الحياة اليومية الجديدة في بدايات مرحلة التنمية في المدن السعودية الناشئة - نتيجةً لوجود أعداد كبيرة من المهاجرين العازبين سواء من داخل المجتمع السعودي أو من الأقطار العربية - ظهور المطاعم بوصفها ظاهرة جديدة على المجتمع، فقد تم افتتاح كثير من المطاعم التي كانت تُدار بأيدٍ عربية، وقد أسهم ظهور تلك المطاعم في تعريف السكان المحليين بكثير من الأطباق العربية، وما لبثت تلك الأطباق أن أخذت مكانها في المائدة السعودية جنبًا إلى جنب مع أطباق المأكولات الشعبية المحلية.
 
4- المرحلة الرابعة:
 
كانت هذه المرحلة البداية الفعلية لاتصال المجتمع السعودي - بجميع فئاته الاجتماعية والثقافية - بالثقافات العالمية بشكل لم يسبق له مثيل؛ فقد انفتح المجتمع السعودي بعد بداية خططه التنموية على ثقافات متعددة غربية وآسيوية وإفريقية دفعة واحدة، فأصبح بإمكان المواطن السعودي البسيط الذي لم يكن يعرف أبعد من حدود قريته أو هجرته أن يكوِّن صورة عن المجتمعات في الدول الأخرى، ومواقعها الجغرافية، وعادات شعوبها، بل إنه أصبح يكوِّن اتجاهاته السياسية والثقافية ومواقفه الشخصية عن تلك المجتمعات من خلال الأفراد الذين يتصل بهم من أبناء تلك الجنسيات العاملة في المشروعات التنموية.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الجنسيات آنذاك؛ إلا أن هذه المرحلة يمكن أن يُطلَق عليها (مرحلة استطلاع الثقافات)؛ فقد ظل كثير من أفراد المجتمع المحلي فترة غير متفاعلين مع الثقافات الجديدة الوافدة، وكانوا ينظرون إلى الوافدين على أنهم غرباء مما جعلهم لا يتواصلون معهم إلا في حدود الحاجة. كما أن نوعية الوافدين في ذلك الوقت كانت مقتصرة على عمال الشركات والمصانع ممن يقيمون في مجمعات سكنية خاصة بهم في أطراف المدن، فلم تكن لديهم فرص الالتقاء الكافي بالمواطنين إلا في حدود الحاجات المتبادلة مثل البيع والشراء ونحو ذلك  . ولا يمكن إغفال وجود بعض الاتصال الثقافي على المستوى الاقتصادي، فقد أدى وجود أعداد كبيرة من العاملين الآسيويين والغربيين إلى توافر بعض الاحتياجات الخاصة بهم في الأسواق المحلية، مما فتح مجالات جديدة للتجارة بتوفير سلع محددة تخدم فئة معينة من الوافدين. كما بدأ في تلك الفترة ظهور بعض المطاعم الآسيوية التي افتُتحت في المدن الكبرى التي تحتوي على نسب عالية من الوافدين، مثل: مكة المكرمة، والرياض، وجدة، والخبر... وغيرها من المدن الأخرى. وقد أدى افتتاح تلك المطاعم إلى تعرُّف المواطنين المحليين إلى أنواع المأكولات العالمية، فقد أصبح كثير من المأكولات الآسيوية معروفًا لدى كثير من شرائح المجتمع، بل أصبحت مستساغة ومرغوبة من قِبَل كثير من الأهالي. ويمكن أن يُطلَق على هذه المرحلة الفرعية من مرحلة الاستطلاع بمرحلة (بداية التقبُّل للثقافات الأخرى).
ثم تلا ذلك الانفتاح على اللغات الأخرى؛ فقد أصبح كثير من المحال التجارية تستخدم أكثر من لغة على واجهاتها لاجتلاب زبائنها وإشهار بضاعتها للوافدين من أبناء الجنسيات الأخرى. كما بدأ استخدام اللغة الإنجليزية بوصفها لغة ثانية في اللوحات الإرشادية للطرق والاتجاهات المحلية؛ وذلك لمساعدة الوافدين من مختلف الجنسيات في الوصول إلى الوجهات التي يرغبون في الذهاب إليها.وتُعد هذه المرحلة - عمومًا - من أهم المراحل التي أسهمت في تمايز الهوية الثقافية السعودية؛ فقد بدأت الثقافات المناطقية تذوب وتتوحد في ثقافة سعودية موحدة، وتعمَّق تشكُّل الهوية السعودية للمواطنين عندما استُخْدِم تعبيرا (سعودي) و (غير سعودي) ليمثل كلٌّ منهما هوية مختلفة، وتلاشت بذلك الأسماء الإقليمية الداخلية عند الحديث مع الوافدين أو عنهم فيُقال (مواطن) و (مقيم).
 
5 - المرحلة الخامسة:
 
وأما المرحلة الخامسة من مراحل الانصهار الثقافي الداخلي بين شرائح المجتمع السعودي فبدأت مع بداية انفتاح المجتمع على الثقافة الغربية خصوصًا، ويمكن القول إن البدايات الفعلية للاتصال الثقافي المحلي بالغرب بشكل واسع لكل شرائح المجتمع بدأت مع بداية التعليم النظامي، إذ أُقرَّت مادة اللغة الإنجليزية بوصفها إحدى المواد المقررة على الطلاب والطالبات في المرحلة المتوسطة، ونظرًا إلى ما كانت تحتويه تلك المقررات من عدد من الأسماء والتعبيرات الجديدة على الطلاب ثقافيًا واجتماعيًا فقد كانت مثار تساؤلات كثيرة منهم عن الثقافة الغربية والحياة في الغرب. وقد تبع ذلك بفترة ظهور البث التلفازي مما أتاح فرصة أكبر للمجتمع المحلي بجميع شرائحه لمشاهدة نماذج من الثقافة الغربية، كما كانت الرسوم المتحركة (أفلام الكرتون) في تلك الفترة إنجليزية الهوية غالبًا، سواء من حيث المضمون أو اللغة، وكانت تحظى بقبول واسع من صغار السن.كما ظهر في تلك الفترة أيضًا عدد من القصص المترجمة التي كانت تشغل الشباب - بالدرجة الأولى - قراءةً وتحليلاً ساعات طويلة، كما ظهرت بعض القصص الإنجليزية الكرتونية المترجمة، وكانت تلقى قبولاً واسعًا من الصغار والشباب على السواء، وكانوا يُقبلون على اقتنائها.وقد امتد ذلك التأثير الثقافي لينعكس على تفكير الأطفال الصغار في تلك الفترة، فقد كانوا يترجمون ما يقرؤون ويشاهدون إلى خيالات يجسدونها في رسوماتهم - مثلاً - في المدارس المحلية، فغالبًا ما كان الصغار في تلك المرحلة عندما يطلب منهم مدرس الرسم رسم مناظر طبيعية يقومون برسم منظر غابة مكتظة بالأشجار، أو جبلين يخترقهما نهر، كما أنه عندما كان يُطلب منهم رسم منازل فإنهم غالبًا ما كانوا يرسمونها على النمط الغربي (أكواخ صغيرة غُطِّيت سقوفها بالقرميد الأحمر)، وقد كان هذا أحد الأنماط التعبيرية للتعرف إلى الثقافات الغربية من قِبَل الصغار، وبداية توجيه الفكر المحلي نحو الانفتاح العالمي، والخروج من دائرة الثقافات المحلية الصغرى للقرية أو القبيلة.
واستمر تأثير الثقافة الغربية في المجتمع المحلي ليصل ذروته في بداية العِقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري / بداية التسعينيات من القرن العشرين الميلادي؛ إذ أصبحت الأنماط الثقافية الغربية واسعة الانتشار بين طبقات المجتمع سواء في المدن أو القرى أو الهجر، وتمثلت في عدد من المظاهر، مثل: الزي، والطعام، وأساليب الترفيه، وأنماط السكن، وقد ساعد على ذلك ظهور الأساليب التسويقية الغربية في التجارة المحلية ممثَّلةً في أساليب العرض والدعاية على الطريقة الغربية، كما بدأت تختفي الأسواق التقليدية المحلية لتتحول إلى مجمعات تجارية كبرى، مما أتاح الفرصة للمواطن السعودي لمعرفة (الماركات) والمنتَجات العالمية والإقبال عليها بمختلف أنماطها ومصادرها  . وقد استمرت التأثيرات العالمية في الثقافة المحلية وكانت أحد الأسباب الرئيسة في تسريع عملية الانصهار الثقافي للثقافات الفرعية المحلية وتقاربها واندماجها في ثقافة محلية عامة تتصف بالمحافظة والانفتاح المقنن، مما شكل صورة نمطية للمواطن السعودي لدى الآخرين، وجَعَل الثقافة السعودية أمرًا ملموسًا يمكن تمييزه من بين الثقافات الأخرى العربية وغير العربية، مما يؤكد بروز الثقافة السعودية بوصفها ثقافة ذات سمات خاصة، وبذلك تلاشت الثقافات الفرعية الداخلية وانصهرت بوضوح في الثقافة الوطنية الكبرى.
شارك المقالة:
83 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook