أمر الله -تعالى- الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بالدّعوة إلى توحيده بعد نزول جبريل -عليه السلام- بستة أشهرٍ، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الدعوة السريّة لا تعني الكتمان، وإنّما تبليغ الغير أمراً، لاتّباعه، باستخدام أساليب الترغيب والترهيب، وغيرهما من الوسائل والأساليب، مع الطلب المتكرّر، وتقديم النُّصح والمشورة، وإظهار الخير والبرّ للمدعوين، فالداعي يريد تحقيق مصلحتهم، والسريّة مرحلةٌ أساسيّةٌ، يمرّ بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في دعوتهم، فقد ورد في قَوْله -تعالى- عن نبيّه نوح -عليه السلام-: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)، وذلك يدلّ على أنّ نَهْج الدعوات في بدايتها تكون سريّةً، كزوجة فرعون التي كانت تُخفي إيمانها.
نزل الوحي على محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- أوّل مرّةٍ بسورة العلق، ثمّ فَتَرَ الوحي فترةً من الزّمن، وهي المدّة التي تأخّر فيها نزول القرآن الكريم على محمّدٍ -عليه الصلاة والسلام-، على الرغم من نزول جبريل -عليه السلام-، وقد ورد أنّ تلك الفترة استمرّت سنةً ونصف، أو ستة أشهرٍ، وورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّها كانت أربعين يوماً، وقد علّل العلماء ذلك الفتور ليقع الشوق في قلب الرسول -عليع الصلاة والسلام- للوحي مرّةً أخرى، ثمّ نزل الأمر الإلهيّ بتبليغ الدعوة بنزول سورة المدّثر، فأخذ الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- يدعو من أهل بيته ومعارفه ومن يثق بهم سرّاً، واستمرّ ذلك الحال ثلاث سنواتٍ.
بلّغ الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- الدعوة إلى توحيد الله، وقد تفرّعت إلى مرحلَتَين:
كانت مكّة المكرّمة ذات مكانةٍ جليليةٍ قبل الإسلام؛ بحكم مكانتها الدينيّة بين العرب؛ إذ إنّ فيها الكعبة، وكان أهل مكّة قائمين على خدمة البيت، ولذلك فكان تحوّل الدِّين وتغييره أمراً عظيماً، ممّا استدعى سريّة الدّعوة في بدايتها، وقد كان للسريّة العديد من الحِكم، يُذكر منها:
تميّزت الدعوة السريّة بمجموعةٍ من الخصائص؛ فكانت بداية نشر الدين الإسلاميّ، ولذلك كان لزاماً تعليم الداخلين بالإسلام حقائق التوحيد، وترسيخ الإيمان في القلوب، وتربيتهم على أخلاق الإسلام، وفي الدعوة السريّة شُرعت الصلاة، وكانت ركعتين صباحاً، ومثلهنّ مساءً، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يصلّون سرّاً، بعيداً عن أعين الناس؛ لئلا يعرفوا بإيمانهم، وكانت أعداد المسلمين تزداد يوماً بعد يومٍ، حتى تكوّنت نواةٌ للجماعة المسلمة المؤمنة سرّاً، على الرغم من العذاب والتضحيات التي قدّمها الصحابة الأوائل، إلى أن جاء الأمر بالجهر بالدعوة، وحينها بدأت مرحلةٌ جديدةٌ، كما تميّزت الدعوة أيضاً بشموليتها؛ فهي للنّاس كافةً، لا فرق فيها بين الأفراد بحسب العِرق، أو اللون، أو الجنس.
بدأت الدعوة الإسلاميّة السريّة في بيت أمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، ثمّ تحوّلت إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ بسبب زيادة أعداد المسلمين، فكانوا يجتمعون فيها، ويتعلّمون فيها أحكام الإسلام، وقد تمّ اختيار دار الأرقم؛ لأنّه من قبيلة بني مخزوم التي كانت حاملةً للواء الحرب ضدّ بني هاشم، كمت أنّ الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، وكان عُمره ستة عشر سنّةً، إذ كانت تظنّ أنّ المسلمين يجتمعون في بيوت كبار الصحابة.
كانت الجزيرة العربية تتّصف بالقبليّة والعشائريّة، وكانت قبيلة قريش شأنها شأن العرب في ذلك، ومع هذا فقد اتّسعت رقعة الداخلين الأوائل بالإسلام، بحيث تعدّت الدعوة الإسلاميّة قبلية قريش، فلم يكن نصيب بني هاشم من المسلمين الأوائل أكثر من القبائل الأخرى، وقد أسلم في المرحلة السريّة ستون صحابيّاً، من قبائل مختلفةٍ، وكان أوّل من أسلم السيدة خديجة بنت خويلد، زوجة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، ثمّ أسلم أبو بكر الصدّيق من قبيلة تيم، ثمّ عليّ بن أبي طالب من بني هاشم، ثمّ أسلم عثمان بن عفّان من بني أميّة، وعمر بن الخطّاب من بني عدي، وعبد الرحمن بن عوف من بني زُهرة، وعثمان بن مظعون من جُمح، والزبير بن العوّام من بني أسد، وأبو عبيدة بن الجرّاح من بني عامر، كما دخل في الإسلام صهيب بن سِنان من الروم، وأبو ذرّ من غفّار، ومن السابقين بالإسلام أيضاً: خالد بن سعيد، وعبد الله بن مسعود، وخباب بن الأرتّ، وبلال بن رباح، وبذلك يتبيّن أنّ الإسلام لم يكن مقتصراً على أهل مكّة فقط، وإنّما عامّاً لكّل الناس، على اختلاف قبائلهم، وعشائرهم، وألوانهم، وأعراقهم، فلم ينحصر الإسلام بطائفةٍ محدّدةٍ، بل جاء عامّاً دون تفريقٍ بين أحدٍ.
موسوعة موضوع