لقد قام الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - بالعديد من الغزوات خلال حياته، وذلك لأجل تحقيق العديد من الأهداف، مثل الدّفاع عن شوكة المسلمين ضدّ كل من حاول التّصدي للإسلام في بداية نشأته، وتعتبر غزوة تبوك هي آخر غزوة قام بها الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - في حياته، وسنورد ذكرها في هذا المقال بشيء من التّفصيل.
تعدّ غزوة تبوك هي آخر غزوة غزاها النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - بنفسه، وقد كانت وقت رجوعه من العمرة بعد حصار الطائف، وذلك في آخر شهر ذي القعدة، عام ثمانية للهجرة، فأقام في المدينة شهر ذي الحجّة، والمحرّم، وصفرا، وجمادى الآخرة، فلمّا كان شهر رجب من عام تسعة للهجرة، أذن الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - للمسلمين بغزو الرّوم.
وكان عام تسعةٍ للهجرة عام قحط، وجدب، وحرّ شديد، حيث طاب حينها أوّل الثّمر، وقد كان النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في كلّ غزوة لا يُفصح عن اتجاه الجيش،
وأمّا سبب هذه الغزوة كما قال ابن سعد في طبقاته:" أنّه بلغ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنّ الرّوم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشّام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلب معهم لخماً، وجذاماً، وعاملةً، وغسّاناً، وغيرهم من متنصّرة العرب، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - النّاس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يقصده؛ ليتأهّبوا له
سميت غزوة تبوك بهذا الاسم بسبب عين تبوك، والتي مرّ المسلمون بها خلال طريقهم إلى ملاقاة الرّوم، وقد سمّيت هذه الغزوة أيضاً بغزوة العسرة، وذلك لأنّه قد اجتمع فيها مظاهر كثيرة من العسرة والشّد، حيث كان الجوّ شديد الحرارة، وشحّ الماء مع المسلمين، وكان المكان الذي يقصدونه بعيداً، وفوق هذا كان المسلمون في حالة شديدة من ضيق الحال والفقر، وقد ذُكر ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى:" لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ "، التوبة
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وهو يبرق وجهه من السّرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله. وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إذا سرّ استنار وجهه كأنّه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلمّا جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله؛ إنّ الله إنّما نجّاني بالصّدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقاً ما بقيت، فوالله؛ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أحسن ممّا أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إلى يومي هذا كذباً، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم:" لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ "، إلى قوله:" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ألّا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:" سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ "،إلى قوله:" فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ".
والمعذّرون هم من نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى:" وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ "، التوبة/92، ومن هنا جاءت تسميتهم بالباكين والبكّائين.
وقد قال فيهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عند رجوعه من تبوك:" إنَّ بالمدينةِ أقوامًا، ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وهم بالمدينةِ؟ قال: وهم بالمدينةِ، حبسهُمُ العذرُ "، رواه البخاري