عهد الدولة السعودية الثانية

الكاتب: ولاء الحمود -
عهد الدولة السعودية الثانية

عهد الدولة السعودية الثانية.

 

محاولات إعادة تأسيس الدولة

 
على الرغم من سوء الأوضاع إلا أن الناس لم يستسلموا لها، ففي الوقت نفسه الذي كانوا فيه أمام واقع مرير، لم ينسوا ما نعموا به من أمن واستقرار في ظل سيادة الدولة السعودية الأولى، لذا بدأت المحاولات في إعادة تكوين الدولة، كانت أولى تلك المحاولات على يد محمد بن مشاري بن معمر، إذ وجد الفرصة مواتية بعد انسحاب جيش إبراهيم باشا من المنطقة، وما أعقب ذلك من فراغ سياسي، كان محمد بن معمر ثريًا وينتمي إلى أسرة آل معمر الشهيرة في العيينة، وعلى صلة نسب بآل سعود؛ فخاله الإمام عبدالعزيز بن محمد، كما أنه شارك في معارك الدفاع عن الدرعية حتى سقوطها، ذهب بعد ذلك إلى مقر أسرته في العيينة حيث استقر بها لبعض الوقت، وفي سنة 1235هـ / 1819م ذهب إلى الدرعية  ،  ومع أنها كانت مدمرةً، إلا أنه أدرك أهميتها في ذاكرة الناس، فاختار أن تكون البداية منها مرةً أخرى.
 
أخذ ابن معمر يعيد بناء الدرعية، ويدعو الناس للقدوم عليه ومبايعته، ولقيت دعوته قبولاً لدى الناس، فمنهم من عاد إلى الدرعية لمساعدته في إنشاء الدولة الجديدة، كانت بلدة منفوحة أول بلدة تبايع السلطة الجديدة في الدرعية، ولكن زعماء بعض البلدان الذين استعادوا إماراتهم بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، مثل: الرياض والخرج وحريملاء رأوا في ذلك خطرًا يهدد ما حصلوا عليه من مكاسب سياسية، ونتيجة لذلك طلبوا المساعدة من زعيم بني خالد، ماجد بن عريعر، للقضاء على حركة ابن معمر قبل أن يستفحل أمرها، ولقيت دعوتهم هوى في نفسه، فجاء على رأس حملة، وعندما وصلت إلى منطقة الرياض انضم إليها أهل الرياض والخرج وحريملاء وهاجموا بلدة منفوحة وتركوها بعد أن تصالحوا معهم. من ناحية أخرى، أدرك ابن معمر الخطر المحدق به وتصرف بحكمة ودهاء، أو كما قال ابن بشر: "ثم أرسل إليه ابن معمر وخدعه بشيء من المكاتبات والهدايا، وأظهر له الموافقة، وذكر له أنه ما له قصد يخالف أمرهم، وأنه دولة سلطان" 
 
تمكن ابن معمر من إنقاذ حكمه وتثبيته بعض الشيء، وكثر العائدون إلى الدرعية ومن بينهم تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود وأخوه زيد اللذان أخذا يساعدانه في بناء الدولة، واصل ابن معمر تطوير الدرعية، وبعد فترة وجيزة تمكن من إحراز بعض الإنجازات المهمة، فعلى الصعيد المحلي أمر بتسيير القوافل إلى الدرعية لتأمين الطعام؛ مما أدى إلى انخفاض أسعار المواد الغذائية بعد فترة من الغلاء، أما على صعيد المنطقة فأرسل مندوبيه إلى بعض البلدان للترويج لدولته، كما أرسل قوة عسكرية تمكنت من إخضاع حريملاء لحكمه، ثم دانت له بعد ذلك بلدان العارض والمحمل والوشم وسدير  
 
وبينما كان حكم محمد بن معمر يتوسع شيئًا فشيئًا، حدثت المفاجأة التي لم يكن يتوقعها، ألا وهي قدوم مشاري بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد، إذ كان مع غيره من آل سعود في طريقهم إلى مصر، ولكنه تمكن من الفرار من حراسه، جاء مشاري بن سعود إلى الوشم، وشكل قوةً صغيرةً من بعض أهل القصيم والزلفي وثرمداء وغيرهم من مماليك آل سعود وسار بهم إلى الدرعية، وسكن في بيت من بيوت إخوته. انـزعج ابن معمر كثيرًا من هذه التطورات، وفكر في حرب مشاري بن سعود، ولكنه عدل عن ذلك، وتنازل له عن الإمارة، عندما رأى قوته وأدرك أنه أحق منه بالحكم  .  بمبايعة مشاري بن سعود بالحكم في الدرعية، بدأ يتوافد عليه عدد من أفراد الأسرة السعودية ومنهم عمه عمر بن عبدالعزيز وأبناؤه عبدالله ومحمد وعبدالملك، وبمساندة منهم ومن تركي بن عبدالله، أخذ يوسع سلطته ونفوذه في منطقة الرياض، فوفدت عليه الوفود مبايعةً من الرياض وسدير والمحمل والوشم، اتجه بعد ذلك على رأس قوة عسكرية، مكونة من أهالي البلدان التي بايعته، إلى الخرج وبعد سلسلة من المعارك استولى على السلمية واليمامة والدلم
 
لكن هذه الإنجازات التي حققها مشاري بن سعود لم يقدر لها أن تستمر، بل أصيبت بنكسة شديدة، إذ ندم ابن معمر على تنازله عن الحكم، وهمَّ باسترجاعه، فخرج من الدرعية إلى سدوس وتمكن من الحصول على مساعدة بعض الفئات في المنطقة، واستولى على حريملاء، كما حصل على مساعدة عسكرية من آبوش آغا، قائد القوات العثمانية وقوات محمد علي في القصيم، وتوجه على رأس قواته إلى الدرعية، وألقى القبض على مشاري بن سعود وأودعه السجن في سدوس، ثم سار إلى الرياض واستولى عليها بعد خروج تركي بن عبدالله منها  
 
أخذ ابن معمر مرةً أخرى يوطد نفسه في الحكم، فبعد أن استولى على الرياض جعل ابنه مشاري أميرًا عليها، وأرسل إلى آبوش آغا أنه تابع للسلطان العثماني، ولذا أقره على حكمه، ومن ناحية أخرى، لم يرضَ تركي بن عبدالله بما حصل لمشاري بن سعود من الغدر، ولذا صمم على إعادة بناء الدولة السعودية
 

جهود الإمام تركي بن عبدالله في تأسيس الدولة

 
كان تركي بن عبدالله قد عمل بجد وإخلاص لبناء دولة جديدة، تجمع الكلمة وتلمُّ الشمل وتعيد الأمن إلى ربوع الوطن مثلما كان عليه في عهد الدولة السعودية الأولى، حيث ما زال الولاء لأسرة آل سعود لمناصرتهم الدعوة، ومعاملة الناس، والأمن والاستقرار الذي تحقق في ظل تلك الدولة، وقد اتضح ذلك بشكل جلي في أثناء حكم مشاري بن سعود الذي يبدو أنه جعله أميرًا على الرياض، خرج تركي بن عبدالله في مجموعة من أنصاره من الرياض قبيل استيلاء قوات ابن معمر عليها، وقصد بلدة الحائر، فأخذ يعد العدة للاستيلاء على السلطة، ومن هناك سار إلى ضرما. وعندما علم ابن معمر أنه لا يوجد معه إلا عدد قليل من رجاله، أرسل ابنه مشاري على رأس قوة عسكرية، ولكن تركي بن عبدالله ومن معه تحصنوا في بيت من بيوت تلك البلدة. وفي أثناء الحصار قام تركي بن عبدالله بحركة جريئة، إذ خرج ليلاً ودهم بعضًا من أنصار ابن معمر المتحصنين في أحد البيوت، وأوقع فيهم بعض الجراح قبل أن يهربوا، ما أدى إلى تخاذل أنصار مشاري بن معمر في ضرما، ففر في نفر قليل من أعوانه عائدًا إلى أبيه في الدرعية  
 
أقام تركي بن عبدالله في ضرما بعض الوقت، وانضم إليه بعض المؤيدين من أهل جنوب نجد وسبيع وغيرهم فسار بهم إلى الدرعية، وقبض على أميرها محمد بن معمر، وبعد أن رتب أموره، توجه إلى الرياض وقبض على أميرها مشاري بن محمد بن معمر، وأودع الاثنين السجن، حاول تركي بن عبدالله مقايضة ابن معمر وابنه بمشاري بن سعود، ولكن أنصار ابن معمر في سدوس سلموه إلى آبوش آغا، فأُخذ إلى عنيزة وسجن هناك إلى أن توفي، فلما تحقق من ذلك أمر بقتلهما  
 
فاستطاع تركي بن عبدالله الوصول إلى الحكم سنة 1236هـ / 1820م، ولكنه لم يستقر في الدرعية بل انتقل إلى الرياض واتخذها عاصمةً له، وربما أن ذلك عائد إلى جودة تحصينها وكثرة المزارع حولها، وهو ما لم يتوافر في الدرعية بعد تدميرها، جاء أول تحدٍّ لحكمه من رجال الحامية العثمانية في عنيزة، إذ هاجموا الرياض وحاصروها، ولكن تركي بن عبدالله تمكن من الصمود مما اضطرهم إلى التراجع، كما سار رجال الحامية العثمانية إلى بعض البلدان في إقليم سدير وأخذوا من أهلها أموالاً وسلعًا، وانتشرت الفوضى في هذا الإقليم من منطقة الرياض  
 
وفي ظل ما قام به تركي بن عبدالله من إنجازات على طريق بناء الدولة، وصموده في وجه المحاولة السابقة لإسقاطها، أدرك محمد علي صعوبة وضع قواته في نجد، فأرسل إليها تعزيزات عسكرية بقيادة حسين بك، وعندما وصلت إلى القصيم انضمت إليها قوات آبوش آغا، وتقدمت هذه القوات حتى وصلت ثرمداء، ثم أمر حسين بك آبوش آغا ومَنْ انضم إليه من أهل المنطقة بالتقدم صوب الرياض، حيث دخلوها وحاصروا الإمام تركي ومن معه في قصر الإمارة، وعندما اشتد الحصار عليهم تسلل ليلاً، وفر وحيدًا إلى جنوب نجد، وبخروجه طلب أنصاره في الرياض الأمان من قائد الفرقة، فوافق على طلبهم، وكان عددهم نحو سبعين رجلاً، ولكنه نكث بوعده فقتلهم، ولم ينجُ منهم إلا عمر بن عبدالعزيز وأبناؤه الثلاثة فأرسلهم إلى مصر  
 
ارتكب حسين بك في منطقة الرياض عددًا من الجرائم التي يندى لها الجبين، فبعد استيلاء قواته على هذه المنطقة، قدم بنفسه من مقر إقامته في ثرمداء إلى الرياض ومنفوحة وفرض على بعض سكانها أموالاً طائلة، ثم عرج على الحائر وقام بأفعال مماثلة لما فعله في المدينتين السابقتين. ويبدو أن أي تعمير أو إحياء لعاصمة الحكم السعودي السابق ما زالت تثير حساسية الجيش العثماني وجيش محمد علي، لذا أمر حسين بك أهل الدرعية الذين استوطنوها في أثناء حكم ابن معمر، بالرحيل بنسائهم وذراريهم إلى ثرمداء ليعطي كل واحد منهم إذنًا بأن يستقر في البلد الذي يريده، ولكن ما بيته لهم أمر يختلف عما أعلنه لهم، قال ابن بشر في وصف هذا الموقف المشين: "فلما اجتمعوا عنده أمر الترك أن يقتلوهم أجمعين، فجالت عليهم خيول الروم ورجالها وأشعلوا فيهم النار بالبنادق والطبنجات والسيوف حتى قتلوهم عن آخرهم رحمهم الله تعالى، وهم نحو مئتين وثلاثين رجلاً، وأخذ الترك أموالهم وشيئًا من أطفالهم وتركوا نساءهم وأطفالهم"  
 
وكأن ما قام به حسين بك وجيشه من جرائم لا يكفي، ففرق مجموعات من جيشه في بعض بلدان منطقة الرياض، فقامت بمصادرة الأموال وحلي النساء والطعام والسلاح، وعذبوا الأهالي وحبسوهم وغير ذلك من ألوان التعذيب والاضطهاد وقطع الأرزاق، حتى اضطر كثير من الناس إلى الهرب في البراري، وبعد هذه الأعمال الإجرامية التي ظنَّ أنها أرعبت السكان وقضت على أي أمل في التخلص من الحكم الأجنبي، انسحب حسين بك تاركًا وراءه حاميات صغيرة في كل من: الرياض ومنفوحة وثرمداء وعنيزة  .  ولكن ذلك كله لم يجدِ نفعًا، فسرعان ما تجددت المشكلات واندلعت الخلافات بعد مغادرته المنطقة، ولذا أرسل محمد علي حملة جديدة بقيادة حسين أبو ظاهر، وعلى الرغم مما اتبعه من سياسة شبيهة بسياسة سلفه القاسية، إلا أن ردة الفعل في هذه المرة كانت مختلفة تمامًا، فبعث موسى كاشف على رأس فرقة من جيشه اقترفت كثيرًا من المظالم في إقليم سدير، ولكنه قتل في إحدى الغارات مع بعض من أفراد فرقته، كما أرسل فرقة أخرى بقيادة إبراهيم كاشف لمهاجمة فريق من قبيلة سبيع قرب الحائر، ووقعت بينهما معركة عنيفة قتل فيها ما يقارب الثلاثمئة شخص بمن فيهم قائد الفرقة  .  وأمام هذه المقاومة سحب أبو ظاهر قواته من ثرمداء، ولم يبقَ في نجد من القوات سوى ما كان منها في منفوحة والرياض.
 
كان تركي بن عبدالله يراقب هذه التطورات، فاستأنف نشاطه في شهر رمضان سنة 1238هـ / 1822م من بلدة الحلوة في جنوب نجد ووصل إلى بلدة عرقة واستقر بها، وهناك أخذ يراسل البلدان طلبًا للمساعدة، فوصلت إليه قوات من الوشم وسدير والمحمل، ثم بدأ في مهاجمة القوات الأجنبية في منفوحة والرياض، واستمرت الحرب والمناوشات بين الطرفين لأكثر من عام، وبعد فترة من الزمن عاد أهل البلدان إلى بلدانهم، ولم يبقَ معه إلا عدد قليل من أنصاره، فتشجعت القوات العثمانية وقوات محمد علي في الرياض ومنفوحة، على مهاجمة تركي بن عبدالله ومحاصرته في عرقة، ولكنه تمكن من صدها، وقد استطاع تركي بن عبدالله، في أثناء إقامته في عرقة، أن يوسع نشاطه في منطقة الرياض فاستولى على ضرما، وبايعه كثير من بلدان سدير والمحمل والوشم  
 
وبعد هذه الإجراءات، سار تركي بن عبدالله من عرقة في أواخر سنة 1239هـ / 1823م، وهاجم منفوحة، ما أجبر أميرها إبراهيم بن سلامة بن مزروع على طلب الصلح وإعطاء البيعة وإخراج جنود الحامية العثمانية منها، وفي مطلع العام التالي، تقدم إلى الرياض وضرب الحصار عليها مدة تتجاوز الشهر جرت خلالها معارك عدة، حتى جاءتهم المساعدة من بعض أعوانهم في المنطقة، عاود الهجوم مرة أخرى، وحاصر الرياض حصارًا شديدًا، ما اضطرهم إلى طلب الصلح من تركي بن عبدالله، فوافق على ذلك، واشترط قائد الحامية أن يخرج مع جنوده بأسلحتهم، وأن يُؤمن من تعاون معه من أهل الرياض  
 
أرسل الإمام تركي بن عبدالله مشاري بن ناصر بن مشاري بن سعود على رأس قوة إلى الرياض لترتيب أمورها في أثناء انسحاب الحامية منها، ثم سار ببقية جيشه إلى شقراء، حيث بقي هناك إلى أن مرَّت به الحامية في طريقها إلى المدينة المنورة. وفي أثناء إقامته هناك وَفَدَ عليه أمير عنيزة وبايعه على السمع والطاعة، ثم عيَّن حمد بن يحيى بن غيهب أميرًا على شقراء، أذن الإمام تركي بن عبدالله لأفراد جيشه من أهل البلدان بالعودة إلى بلدانهم، ثم سار ببقية الجيش إلى الرياض ودخلها منتصرًا بعد جلاء القوات الأجنبية عنها سنة 1240هـ / 1824م  ،  واتخذ منها عاصمة للدولة، وبهذا كان ذلك العام عام تأسيس الدولة السعودية الثانية.
 
شارك المقالة:
51 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook