عهد الإمام فيصل بن تركي في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
عهد الإمام فيصل بن تركي في المملكة العربية السعودية

عهد الإمام فيصل بن تركي في المملكة العربية السعودية.

 
كانت نهاية عهد الإمام تركي بن عبدالله مفجعةً حقًا، إذ اغتيل في مؤامرة دبرها له ابن أخته مشاري بن عبدالرحمن آل سعود الذي استولى على مقاليد الحكم، وكان ذلك في آخر يوم من ذي الحجة سنة 1249هـ / 1834م، كان مشاري بن عبدالرحمن آل سعود، قد فرَّ من مصر وجاء إلى الرياض، في بداية عهد الإمام تركي بن عبدالله، فولاه إمارة منفوحة، ولكنه عزله عنها بعد سنوات عدة، بسبب معلومات وردت إليه حول اشتراك مشاري في مؤامرة على الحكم، خرج على إثر ذلك يبحث عمَّن يؤيده ضد خاله فلم يفز بطائل، ثم ذهب إلى الحجاز طالبًا العون من الشريف محمد بن عون، ولكنه لم يحصل على شيء، وبعد أن قضى سنوات عدة في الحجاز عاد إلى نجد، وذهب إلى بلدة المذنب في القصيم، فطلب من أهلها الشفاعة له عند خاله، وبناءً على ذلك عفا عنه الإمام تركي بن عبدالله، واستقر في الرياض، ولكن طموحه للحكم دفعه إلى تدبير مؤامرة اغتيال خاله واستيلائه على السلطة  
 
كان فيصل بن تركي عند اغتيال والده على رأس حملة عسكرية في شرق الجزيرة العربية، وعندما علم بذلك جمع كبار قادة الجيش وأطلعهم على الأمر، فبايعوه بالإمامة، ثم قفل راجعًا إلى الرياض ووصلها بعد 18 يومًا، تمكن فيصل بن تركي من دخول الرياض وحاصر مشاري بن عبدالرحمن ومن معه في القصر، وبعد 20 يومًا من الحصار بدأ بعض أعوانه يتخاذلون عنه، كان سويد بن علي، أمير بلدة جلاجل سابقًا، من بين من كان مع مشاري محاصرًا في القصر، وكانت تربطه صداقة بعبدالله بن رشيد، أحد قادة جيش فيصل بن تركي، لهذا تم الاتفاق على أن يسهل سويد مهمة تسلق عبدالله مع عدد من رجال فيصل إلى داخل القصر، وأن يقف معهم ضد مشاري بن عبدالرحمن، في مقابل أن يعيده إلى إمارة جلاجل وأن تكون وراثة لذريته، وهكذا تمكَّن ابن رشيد ومن معه من دخول القصر وتضييق الخناق على مشاري بن عبدالرحمن ومَنْ تبقى معه من أنصاره حتى تمكنوا من القضاء عليهم، وذلك بعد 40 يومًا من اغتيال الإمام تركي بن عبدالله  
 
فاستطاع فيصل بن تركي استعادة حكم أبيه، وأصبح إمامًا أو حاكمًا للدولة السعودية، وأخذت وفود البلدان تأتي إليه معلنةً ولاءها وتأييدها له، وقد افتتح الإمام فيصل بن تركي عهده بالدعوة إلى مؤتمر في الرياض، ودعا كبار قضاة بلدان دولته للحضور إلى العاصمة، "فحضروا عنده مع قاضي قضاة المسلمين الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب فهنؤوه بما بلَّغه الله...، والمعافاة للمسلمين من الفتن... "  .  كان هؤلاء القضاة موضع حفاوة وترحيب الإمام طوال فترة المؤتمر الذي استمر شهرًا، وتمت فيه مناقشة شؤون القضاء، وأمور الرعية وأحوال الدولة بشكل عام، وقبل أن ينصرفوا إلى بلدانهم أقرَّهم على أعمالهم، كما وفد على العاصمة أمراء البلدان وأمراء البادية للتهنئة والبيعة، فأكرمهم وأقرهم على إماراتهم، ثم أمر عمال الزكاة بالخروج "مع الرؤساء لقبض زكاة عربانهم، فركب مع رئيس كل قبيلة عامله"  
 
وعلى الرغم من كل هذه الجهود التي بذلها الإمام فيصل بن تركي لترتيب أمور دولته، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور بعض المشكلات، كان من أهم هذه المشكلات التي حدثت في منطقة الرياض ما حدث من اضطرابات أمنية وخلافات بين أهل وادي الدواسر، أرسل الإمام فيصل بن تركي على إثرها حملة إلى تلك المنطقة، حيث مكثت هناك شهرًا قامت خلاله ببعض الأعمال التأديبية، كما سار الإمام فيصل بن تركي على رأس حملة كبيرة خرجت إلى منطقة سدير وهاجم فريقًا من الدواسر في العرمة، ثم واصل سيره إلى أن وصل إلى بلدة الشعراء بعالية نجد، عسكر الإمام بجيشه في هذا الموقع أربعين يومًا، قام خلالها بإرسال عمَّاله لجباية الزكاة من بادية تلك المنطقة، وعندما علم بامتناع فريق من قبيلة قحطان عن أداء الزكاة، لحق بهم وهاجمهم ثم عاد إلى الشعراء، ويبدو أن إظهار القوة كان كافيًا لإقناع بعض المترددين بالقدوم إليه في ذلك المكان، فَوَفَدَ عليه محمد بن فيصل الدويش رئيس مطير، ومحمد بن هادي بن قرملة رئيس قحطان، كما قَدِمَ إليه في المكان نفسه وفد أهالي وادي الدواسر طالبين العفو والصفح عما بدر منهم، في بداية العام، ثم بايعوه على السمع والطاعة وولَّى عليهم أميرًا اصطحبهم إلى منطقتهم، ومما قام به في أثناء إقامته في المكان نفسه أن عيَّن صديقه عبدالله بن علي بن رشيد أميرًا على جبل شمَّر بدلاً من صالح بن عبدالمحسن بن علي  ،  واضعًا بذلك أسس إمارة آل رشيد التي قدِّر لها أن تؤدي دورًا مهمًا في تاريخ الجزيرة العربية الحديث.
رأى الإمام فيصل بن تركي مرة أخرى أنه لا بد من إظهار قوة الدولة لإقناع أهل البادية بتأدية الزكاة؛ لذا خرج على رأس جيش قوي ونـزل روضة التنهات، فوفد عليه هناك رؤساء البادية، ثم أرسل عمَّاله وقبضوا الزكاة   
 
واصل الإمام فيصل بن تركي جهوده لبناء الدولة وتصديه بفعالية لما يحدث من مشكلات داخل منطقة الرياض وخارجها، ولكن محمد علي، حاكم مصر، كان يخطط في الوقت نفسه لإرسال حملة للقضاء على تلك الدولة، كان محمد علي قد استولى، باسم السلطان العثماني، على أجزاء مهمة في غرب الجزيرة العربية، لكن العلاقة ساءت بين الطرفين إلى حد القطيعة، خصوصًا بعد استيلاء محمد علي على السودان والشام وأجزاء من اليونان، ومن خلال تجاربه في الحملات السابقة وما شهدته من مقاومة شرسة، أدرك ما يكنُّه الناس في نجد من مودة لحكامهم السابقين من آل سعود، لذا شكل حملة أسند قيادتها الاسمية إلى خالد بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد  ،  أما قيادتها الفعلية فهي بيد إسماعيل بك، ويبدو أن هدف محمد علي من هذه الحملة، هو أن يكون خالد بن سعود حاكمًا على نجد من قبله، وليسهل مهمة جيشه في الاستيلاء على نجد، أو كما قال ابن بشر: "فظنَّ محمد علي أن أهل نجد يطيعون إذا رأوا خالدًا، أو أنهم يطيعون له، ويصيرون تحت أمره، وأظهره مع تلك العساكر تقية ليتوصل به إلى مراده ومقصوده"  
 
كان محمد علي في أثناء الإعداد لتلك الحملة، قد أرسل دوسري بن عبدالوهاب أبو نقطة في مهمة إلى فيصل بن تركي، ليطلب منه تزويد الجيش ببعض اللوازم، وإزاء هذا الخطر الداهم الذي بدأ يلوح في الأفق، أراد الأخير أن يسلك سبيل المهادنة واللين والدبلوماسية، فأرسل أخاه جلوي بن تركي مزودًا ببعض الهدايا لمقابلة أحمد باشا يكن، حاكم عام الحجاز، ولكن تلك المهمة لم يكتب لها النجاح، على الرغم مما أبداه الإمام فيصل بن تركي من استعداد لتلبية بعض طموحات محمد علي 
عندما علم الإمام فيصل بن تركي بوصول الحملة إلى ميناء ينبع، حاول التفاوض، فأرسل مندوبًا آخر ومعه هدية لقائدي الحملة، ولكن هذه المهمة لم تكن أحسن حالاً من سابقتها، فعاد المندوب وواصلت الحملة تقدمها صوب نجد، استشار الإمام رجالاته فأشاروا عليه بالرحيل إلى القصيم كي لا يقع في أيدي خصومه، لذا استنفر قواته وسار إلى هناك في شوال سنة 1252هـ / 1837م، ونـزل على ماء الصريف قرب بلدة التنومة.
من ناحية أخرى، تقدَّم جيش إسماعيل وخالد حتى وصل إلى بلدة الرس، وكان الإمام فيصل ينوي التصدي لهم، ولكن حصلت بعض التطورات التي أضعفت موقفه العسكري، لذا قرر العودة إلى الرياض 
 
كان الوضع في الرياض على غير ما تصور الإمام فيصل بن تركي، فدب الفشل في نفوس أهلها، وظهر أنهم غير مستعدين للوقوف معه، بل إن منهم مَنْ أظهر ميلاً إلى خالد بن سعود، وإزاء هذه التطورات المريبة في العاصمة، قرر أن يضرب خيامه خارجها، ثم دخلها في نفر من رجاله، وأخذ ما أمكن أخذه من قصر الحكم، ثم غادرها إلى الخرج ومنها إلى الأحساء  .  أما خالد وإسماعيل فاستوليا على القصيم، ثم تقدما صوب الرياض، فدخلاها دون قتال في أوائل سنة 1253هـ / 1837م، بعد أن هرب منها إلى جنوب نجد، مَنْ لم يكن راضيًا بهذا الحكم الجديد.
 
استقر الحكم لخالد بن سعود، وقدم عليه معظم رؤساء البلدان في منطقة الرياض، وأعلنوا تأييدهم له، أما جنوب نجد الذي التجأ إليه كثير من الفارين من الرياض، فإن الأمر لم يكن كذلك، لهذا أراد خالد بن سعود أن يبسط سيطرته على تلك الجهات، فجهَّز جيشًا من المناطق التي تحت حكمه، بالإضافة إلى فرقة من جيش محمد علي. خرج بهذه القوات مع إسماعيل بك، وقصد بلدة الحلوة  التي هب لنجدتها أهل الحوطة والحريق، حيث دارت بين الطرفين معركة عنيفة، وعلى الرغم من الكثرة العددية لجيش خالد، إلا أن الله مكَّن أهل تلك البلدة الصغيرة من الظفر بهم وإنـزال هزيمة ساحقة بهم  
 
سمع الإمام فيصل بن تركي بأخبار هذه الهزيمة، وهو في الأحساء، فتشجع وعاد مسرعًا إلى الخرج، إذ انضم إليه أنصاره، ثم زحف حتى وصل إلى قرب الرياض، فالتقى بجيش خالد ومن معه وتمكن من هزيمتهم، واصل تقدمه إلى العاصمة وضرب عليها حصارًا شديدًا، وأوشكت أن تسقط لولا وصول تعزيزات عسكرية كبيرة للمحاصرين، ففكَّ الحصار عنها وتراجع إلى بلدة منفوحة، دارت بعد ذلك مفاوضات للصلح بين الطرفين، وعقد اجتماع بين الإمام فيصل بن تركي وخالد بن سعود في موقع بين الرياض ومنفوحة، ولكنهما لم يتمكنا من التوصل إلى صلح، كان رأي الإمام فيصل بن تركي أن على خالد بن سعود ومَنْ معه من القوات الأجنبية الانسحاب من نجد، لأن أهل نجد لا يرضون بحكم الترك، ولا مَنْ يواليهم. من ناحية أخرى، يرى خالد بن سعود أن يبقى حكم نجد له، وأن على الإمام فيصل بن تركي أن ينسحب من نجد وأن يقنع بحكم الأحساء  
 
تجدد القتال حول الرياض مرة أخرى، وحين أحس محمد علي بحرج موقف قواته، أمر بإرسال حملة جديدة وأسند قيادتها إلى خورشيد باشا، وخوفًا من أن تسقط الرياض قبل وصول قواته إلى المنطقة، أرسل خورشيد باشا مندوبًا يحمل هديةً إلى الإمام فيصل بن تركي، فقدم عليه في منفوحة، وتفاوض معه حول إنهاء حالة الحرب بشروط مقاربة لما عرضه خالد بن سعود، أدرك الإمام فيصل بن تركي خطورة الموقف فتراجع إلى الدلم، وفي محاولة منه للتفاوض والصلح بعث هدية إلى خورشيد باشا مع أخيه جلوي بن تركي، وصل جلوي إلى المدينة المنورة وأجرى بعض المفاوضات مع خورشيد، ولكنها لم تصل إلى نتيجة حاسمة، فبقي عنده وصحبه في أثناء تقدم جيشه إلى القصيم، ومن هناك تمكن من الفرار واللحاق بأخيه في الخرج  
مكث خورشيد عدة أشهر في عنيزة، ثم زحف بجيشه إلى الرياض، فانضم إليه خالد بن سعود بمن معه من قوات، وسار الجميع إلى الخرج، وأدرك الإمام فيصل بن تركي - بعد فشل المفاوضات - أن هدف حملة خورشيد هو القضاء عليه؛ لذا أخذ يرتب قواته استعدادًا للحرب، وقد جرت بين الطرفين معارك عدة في منطقة الخرج، وعندما ازداد الضغط وطال الحصار على بعض فئات من قواته أخذت في الاستسلام، وطلبوا الأمان من خورشيد فأعطاهم، ومما لا شك فيه أن تلك التصرفات المنفردة التي تمت من دون علم القيادة، أضرَّت كثيرًا ليس بالموقف العسكري للإمام فيصل بن تركي فحسب، بل وبموقفه التفاوضي، أدرك الإمام فيصل أيضًا ذلك الخلل الذي أصاب موقفه العسكري، فقرر طلب الصلح، وأرسل مندوبه إلى خورشيد باشا، فدارت المفاوضات بينهما، ثم خرج الإمام بنفسه لمقابلة خورشيد واستكمال المفاوضات، وتم الاتفاق على شرطين أساسيين:
 حقن دماء أهل الدلم وأموالهم، وجميع مَنْ كان مع الإمام فيصل من أهل العارض وغيرهم.
 يسافر الإمام فيصل وأخوه جلوي وولداه عبدالله ومحمد، وابن أخيه عبدالله بن إبراهيم إلى مصر للإقامة فيها  .
وأخيرًا رحل الإمام فيصل بن تركي ومَنْ معه من الدلم في أواخر رمضان سنة 1254هـ / 1838م إلى المدينة المنورة ومنها إلى مصر، وبهذا تنتهي الفترة الأولى من حكمه
 
شارك المقالة:
64 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook