لكلّ صاحبيٍّ من أصحاب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-العديد من المواقف والأحداث العظيمة التي جرت في مرحلةٍ ما من حياته قبل إسلامه أو بعده أو في كليهما، أمّا الصحابيّ الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقد كان له صولات وجولات قبل الإسلام، وبعد إسلامه في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحتّى في عهد الخُلفاء الرّاشدين، فمن هو عمرو بن العاص، وبماذا كان يُلقَّب؟ هذا ما ستبحث فيه المقالة بعد توفيق الله.
الصحابيّ عمرو هو (ابن العاص بْن وائل بْن هاشم بْن سَعِيد بْن سهم بْن عَمْرو بْن هصيص بْن كعب بْن لؤيّ بْن غالب الْقُرَشِيّ السهميّ، كُنيته أبو عَبْد الله)، وقيل: إنّ كنيته هي أَبُو مُحَمَّد، أمّا اسم أمّه فهو: النابغة بِنْت حرملة، وقد كانت أمّه سبيّةً -أسيرة حرب- وقومهما هم بنو (جلان بْن عتيك بْن أسلم بْن يذكر بْن عنزة)، أمّا أخو عمرو بن العاص لأمّه فهو عَمْرو بْن أثاثة العدويّ، وله أخٌ آخر من أمّه هو: عقبة بْن نافع بْن عَبْد قيس الفهريّ، وقيل في نَسَبِ أمّه غير ذلك؛ حيث سأل رَجُل عَمْراً بْن العاص -رضي الله عنه- عَنْ اسم أمّه، فَقَالَ: سلمى بِنْت حرملة ولقبها النابغة، وهي من بني عنزة، كانت قد أصابتها رماح العرب -أي أنّها سُبيت خلال المعارك- فبيعت مع السبايا في سوق عكاظ، وقد اشتراها على إثر ذلك رجلٌ اسمه الفاكه بن المغيرة، ثُمَّ بعد ذلك اشتراها مِنْهُ رجلٌ اسمه عَبْد اللَّه بْن جدعان، ثُمَّ بعدها صارت مُلكاً للعاص بْن وائل والد عمرو بن العاص، فوُلِد لَها منه عمرو رضي الله عنه.
يُعدّ الصحابي الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من الشخصيّات الجدليّة قبل إسلامه وبعده، وقد كان مشهوراً بذكائه، ودهائه، وفطنته، وقدرته الواسعة على اختلاق الحِيَل، وهذه الصفات من الصفات التي يندر أن تتوفّر في شخصيّةٍ أخرى غير شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه، لأجل ذلك لُقِّب بداهية العرب، وقد كان عمرو بن العاص -رضي الله عنه- كان خطيباً مفوّهاً، صاحب كلمةٍ وقوّة منطق، وكانت أفكاره حاضرةً دائماً، وكان -رضي الله عنه- يُحبّ الشعر ويطرب عند سماعه.
ولعمرو بن العاص -رضي الله عنه- لقبٌ آخر لم يبلغ من الشّهرة ما بلغه لقبه الأوّل داهية العرب؛ حيث لقّبه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأرطبون العرب، وقد لقَّبه عُمر -رضي الله عنه- بذلك لما أظهره عمرو بن العاص من البراعة والإتقان والحرفية أثناء حصار بيت المقدس، عندما كان جيش المسلمين يستعدُّ لفتحها.
مواقف دهاء عمرو بن العاص -رضي الله عنه- كثيرةٌ عديدة، أمّا أبرزها فتتمثَّل فيما يأتي:
جاءت تكنية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأربطون العرب بعد قصّة دهاءٍ منقطعة النظير، كما مرَّ سابقاً، وتحديداً بعد حصار بيت المقدس بقصد فتحها، أمّا تفاصيل تلك الواقعة فإنّ عَمْراً بن العاص كان قد سَارَ بِجَيْشِهِ اتجاه بيت المقدس في واقعة أجنادين، حتّى إذا وَصَلَ منطقة الرَّمْلَةِ وَجَدَ عِنْدَهَا مجموعة من الروم بقيادة أحد أدهى دُهاة الرّوم في تلك الفترة واسمه الْأَرْطَبُونُ، فبعث عَمْرو بن العاص إِلَى عُمَرَ يُنبِئُه بالوقائع، وقد وصل الكتاب إلى عمر، فقال: (قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْظُرُوا عَمَّا تَنْفَرِجُ)؛ يقصد أنّ عَمْراً بالدّهاء يوازي أرطبون الروم، وأنّه سينتصر عليه بالدّهاء، وكان عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ -رضي الله عنه- قد بعث عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ وغيره لقتال أهل إيليا، وبعث أَبَا أَيُّوبٍ الْمَالِكِيَّ إِلَى الرَّمْلَةِ، وكان إذا جاءه مددٌ من جِهَةِ عُمَرَ بعَث طَائِفَةً منهم إِلَى إيليا وَطَائِفَةً أخرى إلى الرملة، إلا أنّه لم يقف مِنَ الْأَرْطَبُونِ عَلَى غلطةٍ أو نقطة ضعفٍ تجعله ينال منه، فذهب إليه بنفسه كَأَنَّهُ رَسُولٌ من عمرو، فأبلغه الرسالة كأنها من رسولٍ إلى الأرطبون، فتنبّه الْأَرْطَبُونُ إلى ذلك، وشكَّ أنّ الذي أمامه هو عَمْرٌو أَوْ مستشاره الأول، ثمّ عزم على قتله.
بعد ذلك نادى أحد حُرّاسه، وأمره بتعقُّب الرسول وقتله إذا ما خرج من عنده، فانتبه عمرو إلى ذلك، وحينها قال لِلْأَرْطَبُونِ: (أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكَ وَسَمِعْتَ كَلَامِي، وَإِنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِنَكُونَ مَعَ هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أجبت أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ لِيَسْمَعُوا كَلَامَكَ وَيَرَوْا مَا رأيت)، فأوْهَمَ الأرطبونَ أنّه أحد عشرة مستشارين بارزين لعمر بن الخطاب وأنّه سيأتيه بهم جميعاً، فظنّ الأرطبون أنّها فُرصةٌ سانحةٌ للإطاحة بهم، فقال له: نعم ائتِني بِهِمْ، وأمر أحد حُرّاسه بثَنْي الحارس الذي أرسله لقتل عمرو بن العاص؛ لاعتقاده أنّه سيرجع إليهم برفقة باقي المستشارين فيقتلهم جميعاً، ونجا منه عَمْرٌو بذلك والتحق بجَيْشِهِ، فلمّا علِم الأرطبون أنَّ الرسول هو عمرو بن العاص وأَنَّهُ نجا من قبضته بعد أن كان بين يديه قَالَ: (خَدَعَنِي الرَّجُلُ، هَذَا وَالله أَدْهَى الْعَرَبِ).
لمّا استفحل طاعون عمواس بالمسلمين وقتل منهم من قتل؛ احتار الأطبّاء والقادة الأفذاذ في كيفيّة التخلُّص من هذا الوباء، حتى إنَّ عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد قدم من المدينة إلى الشام للوقوف على الأمر بنفسه، ولم يستطع أحدٌ من الناس الوصول إلى حلِّ ناجعٍ لهذا الوباء إلى أن انتهى الأمر على يدي عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بعد وفاة معاذ رضي الله عنه، حيث استُخلِف عَمْرو مكانه، فخطب في الناس بعدها قائلاً: (أيّها الناس، إنّ هذا الوجع إذا وقع فإنّما يشتعل اشتعال النار، فتحصّنوا منه في الجبال)، فأشار عليهم بالفرار من الطاعون إلى رؤوس الجبال، كالنار التي إن لم تجد ما تحرقه في طريقها خمدت، وقد كانت تلك نِعْم النصيحة؛ حيث تفرّق الناس بعد ذلك في المناطق حتى زال الوباء عن المسلمين.
برزت في شخصية الصحابيّ الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- العديد من الملامح التي قلّما تجتمع في غيره، ومن تلك الصفات ما وصفه بها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وقد ورد بخصوصها أحاديث نبوية صحيحة، ومن تلك الملامح والصفات ما يأتي:
موسوعة موضوع