يُعدّ القرآن أوّل اسمٍ اشتُهِر إطلاقه على الكتاب العزيز، وفي صحيح الأقوال ورد لغويّاً أنّ معناه يرادف لفظ القراءة، ثمّ أُخِذ المصدر الصريح وأُطلِق اسماً على كلام الله المُنزَّل على النبيّ محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وقِيل إنّ لفظ القرآن لغةً مُشتَقٌّ من القرء؛ أي الجمع، وسُمِّي بذلك؛ لأنّه جمع ثمرات الكُتب السماوية جميعها، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ فالقرآن هو: كلامُ اللهِ -عزّ وجلّ- العربيّ المُعجز الذي أوحاه الله -تعالى- إلى نبيّه محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- عن طريق جبريل -عليه السلام-، منقولاً بالتواتر، مكتوباً في السطور، مُتعبّداً بتلاوته، وقد بُدِئ بسورة الفاتحة، وخُتِم بسورة الناس، ومن أسمائه أيضاً:
لفظ الجمع في اللغة العربيّة مصدرٌ يدلّ على القيام بعمليّة الجمع، فيُقال: جمعتُ الشيء؛ أي جمعته كلّه جميعاً، وجاء بزيادة الهمزة؛ كقول: أجمعت الشيء؛ أي جعلته مُجمّعاً في مكانٍ واحدٍ، ويُقصَد به أيضاً: الضمّ؛ أي ضمّ الشيء بعضه إلى بعض، وهو تجميع الشيء المُفرّق، وجَعْله مُؤلّفاً، أمّا في الاصطلاح الشرعي فيُراد به معنيان، بيانهما فيما يأتي:
وقد جُمِع القرآن الكريم في عهد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وفي عهد خلفيتَيه؛ أمّا في عهد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقد كان حفظه متواتراً في الصدور، ومكتوباً في السطور، وفي زمن الصدّيق تمّ جمع القرآن بورقه في مصحفٍ واحدٍ، وأطلق العلماء تجوّزاً على ما كان في عهد عثمان -رضي الله عنه- جمع القرآن الكريم؛ فقد أمر بكتابته ونسخه.
زاد نزول القرآن الكريم مُفرَّقاً من حرص النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من عدم تفلُّت شيءٍ منه، فكان يردّد كلّ ما يُلقيه عليه جبريل -عليه السلام- قبل انتهائه من تلقينه، فنزل قوله -تعالى-: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)؛ وبعد نزول الآية كان يصمت إلى حين انتهاء الوحي من تلقينه، ثمّ يستدعي الكَتَبَة من الصحابة؛ ليكتبوا كلّ ما ينزل من القرآن الكريم، وكان جبريل -عليه السلام- ينزل على النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ ليعرض عليه القرآن الكريم كلّ سنةٍ في ليالي شهر رمضان، وقد عرضه آخر سنةٍ من حياته مرّتين، ولمّا تُوفّي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كان الكتاب العزيز مجموعاً ومحفوظاً في الصدور، فقد حرص الصحابة على حفظ القرآن الكريم أوّلاً بأوّلٍ.
ومن أبرز مَن حفظ القرآن كاملاً في عهد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وكانوا أئمّةَ هدى في تعليم المسلمين، وإقرائهم إيّاه الخلفاء الراشدون، وهم: أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، إضافة إلى عبدالله بن مسعود، وسالم بن معقل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء، وسعيد بن عُبيد، كما كان القرآن الكريم محفوظاً بالكتابة عند وفاة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، إلّا أنّه لم يُجمَع في مكانٍ واحدٍ، فلم تكن كتابته مُنسّقةً، فكانت السورة أو مجموعة السور تُكتَب على أحجارٍ، ثمّ تُربَط معاً بخيطٍ، ويتمّ وضعها في بيتٍ من بيوت أمّهات المؤمنين، أو تُوضع عند أحد كتّاب الوحي، كزيد بن ثابت، وعليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وكان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم بشكلٍ خاصٍّ، وقد ورد سببان لعدم كتابته وجمعه في مكانٍ واحدٍ، وهما:
أنزل الله -عزّ وجلّ- القرآن على قلب نبيّه محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، فحَوَاه النبيّ وحَبَاه بأشدّ الحرص والمكانة في حياته، فكان من حرصه واهتمامه به -عليه الصلاة والسلام-، أنّه أحسنَ مِن أخْذه بقوّةٍ وتمكينٍ؛ فقد حفظه حفظاً تامّاً، وسعى جاهداً لتبليغه وإيصاله إلى الناس جميعهم، وممّا يدلّ على حرصه:
وقد كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يستأنس بالقرآن، ويُطبّق أوامر ربّه، ويجتنب نواهيه، ويقيم المواعظ والعِبر؛ فيعظ الناس كافّةً، كما حرص على تعليمه صحابته -رضوان الله عليهم- وتبليغهم إيّاه؛ إذ إنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يقصّروا لحظةً من أعمارهم في كتاب الله -تعالى-؛ فجعلوه ميدانهم الأسمى في السباق إلى الله -تعالى-، فهم ينهلون من نَبع معانيه، ويتسابقون في حفظه وتلاوته، ويتدارسون علومه وأحكامه، وكانوا يأخذونه من النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مباشرةً تلقّياً، وسماعاً. ولجمع القرآن الكريم وحفظه في الصدور عدّة خصائص، منها:
لم يدع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- جمع القرآن الكريم خاصّاً بالصدور فحسب، ولكنّه اهتمّ بجمعه وحفظه في السطور أيضاً؛ تمكيناً وتثبُّتاً في الجمع والحفظ، فكان يُوكل مَهامّ الكتابة إلى كَتَبة الوحي؛ فكلّما نزلت آيةً أو سورةً، أمر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بكتابتها، فيتمّ بذلك حفظها، ممّا يؤكّد حِرصه الشديد على جمع كتاب الله -تعالى- مكتوباً في السطور، ومحفوظاً في الصدور، وعليه فإنّ القرآن الكريم تمّت كتابته كلّه في العهد النبويّ، وإن كان مُفرّقاً، ممّا يعني أنّ لكتابة القرآن الكريم زمن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أهميّةً كبيرةً تمثّلت في حياته، وبعد وفاته -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد وردت عدّة أدلةٍ تؤكّد على أنّ القرآن الكريم كان مكتوباً في السطور في العهد النبويّ، ومنها:
ويُشار إلى أنّ القرآن كُتب في زمن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بأدوات الكتابة اليسيرة التي توفّرت آنذاك، منها:
وتجدر الإشارة إلى أنّ من مزايا جمع القرآن بحِفظه في السطور ما يأتي:
لم تكن هناك حاجةٌ ماسّةٌ لجمع كتاب الله في مكانٍ واحدٍ في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى أن حدثت حروب الردّة التي خلّفت الكثير من القتلى، وكان أغلبهم من حفظة الكتاب، وهو السبب الرئيسيّ الذي أدّى إلى خوف عمر من أن يضيع القرآن؛ فعرض فكرة الجمع على أبي بكرٍ، وعلى الرغم من أنّ الصديق رفض في البداية؛ لأنّه أمرٌ لم يقم به النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، إلّا أنّ عمرُ بقي يُذكّره أنّه أمر خيرٍ للمسلمين حتى طمأنّ الله -تعالى- قلب أبي بكرٍ لجمعه، فأمرَ زيدَ بن ثابت بجمعه، وقد اجتمعت في زيد -رضي الله عنه- خِصالٌ حميدةٌ، ومزايا عديدةٌ اختِير -بفضلها- أن يكون ممّن يجمع القرآن الكريم، وهي:
وقد كان لجمع القرآن في عهد الصدِّيق مزايا، من أهمّها:
اختلفت أسباب عمليّة الجمع التي تمّت في عهد عثمان -رضي الله عنه- عن عمليّة الجمع في عهد الصدِّيق؛ فكانت غاية الجمع الرئيسيّة في عهد الصدِّيق جمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، مُرتَّباً للسُّور، ومُتسلسلاً للآيات، ولم تكن الغاية فيه إلغاء جميع المصاحف الأخرى، والتي كانت عند الصحابة وما حَوته من تفسيراتٍ، أو أدعيةٍ، أو أقوالٍ، أو غيرها؛ ففي عهد عثمان أخذ كلّ صحابيٍّ يُقرئ المسلمين القرآن ببلدٍ؛ فكانت القراءات مُتباينةً بحسب ما أُنزِل على الرسول من الأحرف السبعة، والصحابة كلٌّ منهم يُعلّم كما علّمه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حرفاً وقراءةً، فأدّى ذلك إلى تعدُّد القراءات، وتبايُن المقرئين من الصحابة في كلّ بلدٍ، فأبيّ بن كعب كان في الشام، وابن مسعود في العراق، وغير ذلك، ووردت اختلافاتهم في كيفيّة الأداء، وتعدّد وجوه بعض القراءات، فدخل التعجّب بينهم؛ لِما هم فيه من الاختلاف إلى أن وصل الأمر إلى التصادم والشقاق، وإنكار بعضهم قراءة بعضٍ، بحجة أنّه لم يسمعها من النبيّ مباشرةً.
وقد عاين الصحابي حذيفة بن اليمان الاختلاف بين الناس في فتح بلاد أرمينية وأذربيجان، فكان بعضهم يُجرّح بعضاً، فأخبر أمير المؤمنين وقتئذٍ بما رآه من اختلافات المسلمين في قراءاتهم ونزاعهم في ذلك، فأرسل عثمان إلى أمّ المؤمنين حفصة بأن ترسل إليه ما عندها من الصُّحف؛ حتى يتمّ نسخها، ثمّ يردّها إليها، واختار عثمان زيداً ومجموعةً من الصحابة القرشيّين للنسخ، وهم: عبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا الصُّحف إلى المصاحف، وأمرهم عند اختلافهم مع زيد في كلمةٍ أن يرجعوا إلى لسان قريش؛ فعليهم القرآن أُنزِل، ثمّ أرسل عثمان كلّ مصحفٍ إلى بلدٍ، وأمر بحَرق ما سواها من المصاحف، ورَدّ الصُّحف إلى حفصة، وتمّ بذلك جمع القرآن الكريم في عهده.
وقد كان لجمع القرآن في عهد عثمان عدّة مزايا، أهمّها:
كان للجهود السالفة دورٌ جليلٌ في خدمة كتاب الله، والاعتناء به؛ فمن عهد النبوّة كان القرآن محفوظاً بحفظ الله -تعالى- له، ولم يدخله أيّ نقصٍ، أو تحريفٍ، أو تبديلٍ، سواءً في اللفظ أو المعنى، ممّا يدلّ على إخلاص الجهود الجبّارة في حمله ونقله جيلاً بعد جيلٍ، وقد رعاه الله وصانه بهم حتى بقي في شكله ومضمونه، بعيداً عن كلّ زَيغٍ وضلالٍ، وقد حرصت الأمّة الإسلاميّة على كتابها أعظم حرصٍ، من أيّ زيادةٍ أو نقصانٍ، حتى وإن كانت رموزاً وعلامات، ويؤكّد ذلك قول ابن مسعود: "جرّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيءٍ".
يُعَدّ ما فعله أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من إرسال المصاحف المنسوخة إلى البلاد، بعدما جعل من المصحف نُسخاً من أسباب انتشار المصاحف التي نُسِخت في العالم، كما أنّه أرسل مع كلّ مصحفٍ قارئاً يُقرِئ المسلمين هناك؛ حيث جعل زيداً في المدينة، وأرسل عبدالله بن السائب مع المصحف المكّي إلى مكّة، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشاميّ إلى الشام، وأبا عبدالرحمن السلميّ مع الكوفيّ، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وكانت قراءة كلّ قارئٍ تُوافق قراءة أهل البلد الذين أُرسِل إليهم.
موسوعة موضوع