تعرف على تاريخ الجوف منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
تعرف على تاريخ الجوف منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد في المملكة العربية السعودية

تعرف على تاريخ الجوف منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد في المملكة العربية السعودية.

 
تُعَدُّ فترة الألف الأول قبل الميلاد من أهم الفترات في تاريخ منطقة الجوف؛ إذ شهدت ظهور مراكز التجمعات السكانية في المنطقة على مسرح الأحداث آنذاك، وذلك بفضل تزايد النشاط الفعلي لحركة التجارة المنقولة من جنوبي الجزيرة العربية، وازدهار طرق القوافل التجارية التي أدت دورًا مهمًا في تنشيط الحركة الاقتصادية في المدن والمستوطنات التي كانت تقوم على امتداد هذه الطرق، ما جعل سكان المنطقة يضطرون إلى الدخول في معارك الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، وإلى عقد التحالفات البينية ومع جيرانهم في الشمال.
 
لقد كانت دومة الجندل في الطرف الجنوبي من وادي السرحان شمال غربي المملكة العربية السعودية المركز السياسي والديني لعدد من القبائل العربية المتحالفة، وكانت هذه القبائل تُحْكِمُ سيطرتها على الأراضي الواقعة في الأجزاء الجنوبية من وادي السرحان؛ تلك المنطقة التي كانت آنذاك تتمتع بميزات كثيرة، لعل من أهمها: مرور الطريق التجاري القديم عبرها، ما أدى إلى تحكم سكانها في حركة القوافل التجارية القادمة من الجنوب نحو الشمال، وأيضًا تلك المتجهة إلى بلاد الرافدين.
 
وبقدر ما كان تدفق التجارة العربية عبر هذا الطريق مصدرًا لثراء سكان منطقة الجوف، فإنه في الوقت نفسه كان سببًا جوهريًا لتزايد أطماع الدولة الآشورية في فرض سيطرتها على المنطقة، فمنذ حكم الملك الآشوري شلمنصر الثالث 858 - 824 ق.م استمر من بعده حكام الدولة الآشورية في توجيه حملاتهم وغاراتهم الحربية إلى مناطق شمالي الجزيرة العربية عمومًا، وإلى منطقة الجوف خصوصًا؛  رغبة منهم في فرض السيطرة المطلقة عليها، أو ضمان تبعية حكامها لتوجهاتهم السياسية والاقتصادية.
 
لقد ظهرت في هذه الأثناء لأول مرة في التاريخ كلمة (عرب) في أحد النصوص الآشورية التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك في إشارة إلى القبائل العربية الشمالية التي برزت في تلك الفترة بوصفها كيانات سياسية تدافع عن مصالحها ضد الهيمنة والسياسة التوسعية الآشورية، ففي أحد نقوش الملك الآشوري شلمنصر الثالث 858 - 824 ق.م المؤرَّخ في السنة السادسة من حكمه  ،  أي في عام 853 ق.م ورد اسم (جنديبو) بوصفه ملكًا عربيًا، وقائدًا لجيش قوامه ألف هجَّان ضمن قوات تحالف شارك فيه حكام الدويلات الآرامية في بلاد الشام ضد أطماع الدولة الآشورية وتهديدها المستمر لزعزعة كياناتهم والقضاء عليها.
 
وبغض النظر عن نتائج تلك المعركة التي انتهت بانتصار ملك آشور (شلمنصر الثالث) على قوات التحالف في معركة قرقر  ،  فإن أحداثها تلقي مزيدًا من الضوء على قوة جديدة بدأت تظهر في المنطقة، بزعامة جنديبو العربي، فمن خلال سياق النص الآشوري يبدو أن القوة الجديدة كانت على قدر من التنظيم والقوة، ما مكنها من أن تُجنِّدَ جيشًا قوامه ألف محارب بجمالهم، يقف على رأسه الملك نفسه. وفضلاً عن ذلك فإن ظهور مصطلح (ملك) في سياق أحداث هذه الفترة يؤكد أن التنظيم السياسي للتجمعات السكانية في شمالي الجزيرة العربية قد تجاوز مرحلة المشيخة القبلية، فالنص الآشوري يشير بوضوح إلى أن (جنديبو) العربي كان آنذاك يحمل لقب ملك  ،  بل إن إشارة النص تجعله على قدم المساواة مع ملوك الدويلات الآرامية في الشمال، الأمر الذي يعني أن مملكة جنديبو في شمال غربي جزيرة العرب خرجت آنذاك من عزلتها القبلية إلى نطاق أوسع سِمَتُه - على ما يبدو - التحالفات القبلية التي تجمعها مصالح مترابطة وتشترك في نطاق جغرافي واحد، ويقوم على رأسها ملك يوحِّد ما بين القبائل والعشائر المتحالفة. ولا ريب أن في ذلك ما يشير إلى وعي لدى سكان المنطقة في تلك الفترة بأهمية الوحدة المشتركة والتجمع حول قيادة سياسية واحدة تضمن لهم المشاركة في توجيه سير الأحداث والدفاع عن مصالحهم الجماعية.
 
ثمة تساؤل لا يزال النقاش حوله دائرًا بين الدارسين يتمثَّلُ في تحديد المنطقة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها القوة الجديدة بزعامة (جنديبو)، فبينما يسود شبه اتفاق على أن منطقة شمالي الجزيرة العربية هي موطن مملكة جنديبو، إلا أن تحديد المكان بدقة ضمن الإطار الجغرافي لشمالي الجزيرة العربية يشوبه - بسبب انعدام الدليل التاريخي - الغُمُوضُ. وعلى ما يبدو من سياق الأحداث التاريخية اللاحقة، وما أشارت إليه المصادر الآشورية على وجه الخصوص، أن الجوف كانت المركز السياسي لتلك القوة العربية الجديدة بزعامة الملك جنديبو، ولعل ما يعزز ذلك هو أن الجوف بدأت في هذه الأثناء؛ أي في نحو القرن الثامن قبل الميلاد، تبرز على مسرح الأحداث خصمًا عنيدًا للإمبراطورية الآشورية، حيث أصبحت تحركات قبائلها المتحالفة تهدد مصالح الدولة الآشورية؛ مما اضطر حكام آشور آنذاك إلى أن يوجهوا الحملات الحربية المتتابعة ضد سكان المنطقة.
 
تضمنت سجلات حكام الدولة الآشورية شواهد تاريخية مهمة عن منطقة الجوف، بصفتها جزءًا من مسرح الأحداث آنذاك، ومقرًا لعدد من ملوك وملكات العرب الذين حكموا المنطقة خلال تلك الفترة. وعلى ما يبدو فإن المنطقة بدأت تدخل في دائرة الصراع الدولي والتنافس في السيطرة على تدفق البضائع التجارية عبر الطرق التجارية في شمالي الجزيرة العربية وبلاد الشام منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، فالملك العربي جنديبو الذي شارك ضمن تحالف ملوك الدويلات الآرامية، لا ريب في أن محركه الأساسي يكمن في الدفاع عن مصالحه ضد الهيمنة الآشورية المتنامية آنذاك.
 
وتشير حوليات الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث) الذي حكم خلال الفترة 744 - 727 ق.م. إلى أنه وجه عددًا من الحملات الحربية ضد حكام المنطقة، ففي نص له غير مكتمل ثمة إشارة إلى ملكة عربية جاءت في متن النص باسم "زبيبة ملكة بلاد العرب"  ،  وفي نص آخر له يسجل فيه جملة من انتصاراته الحربية على ملوك بلاد الشام وشمالي الجزيرة العربية يتكرر ذكر الملكة زبيبة، ويشير مضمون النص إلى أنه أجبرها على دفع الإتاوة له  . 
 
ثمة تَغيُّرٌ طرأ على التركيبة السياسية في المنطقة، ففي هذه الأثناء يبدو أن الملكة زبيبي ماتت وخلفتها في حكم المنطقة الملكة شمسي، وهذا ما يؤكده أحد نصوص الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث)، فبينما كانت الملكة زبيبي تتصدى له في بادئ الأمر أصبح في نصوصه اللاحقة يتحدث عن ملكة أخرى اسمها شمسي، وتنعت في متن النص بلقب (ملكة بلاد العرب)، كما هي الحال مع الملكة السابقة، ففي أحد نصوصه يقول: إنه قتل من أتباعها 9400 رجل، كما أسر 10.000 منهم، وغنم منها ثلاثين ألف جمل وعشرين ألفًا من البقر وخمسة آلاف كيس من التوابل المتنوعة، ليس ذلك فحسب، بل إنه تمكن من سلب تماثيل معبوداتها، وأجبرها على الهرب من مركز حكمها في أدوماتو (دومة الجندل) على الأرجح إلى عمق الصحراء؛ طلبًا للنجاة بنفسها من بطش الملك الآشوري.
 
وعلى ما يبدو من سياق النص أن الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث) ألحَْقَ هزيمة قاسية بالملكة شمسي، إذ الإشارة في متن النص أنها خشيت سطوته ما جعلها تعود وتحاول استخدام أسلوب الحل الدبلوماسي معه، وذلك من خلال دفع إتاوة له قوامها الإبل مع صغارها.
 
لقد تمكنت ملكة بلاد العرب شمسي بفعلها هذا من العودة إلى حكم منطقتها، ولكنها لم تتمتع باستقلال كامل فيها، بل هذه المرة نصب الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث) عاملاً له في مناطقها، كي يراقب تحركاتها، ويؤمن تدفق الإتاوة المفروضة عليها من قبله.
 
استمرت الملكة شمسي في دفع الإتاوة إلى ملوك آشور، ففي عدد من نصوص الملك الآشوري (سرجون الثاني) الذي حكم خلال الفترة 722 - 705 ق.م، ثمة ما يشير إلى تلقيه الإتاوة منها  ،  مما يشهد على أن المنطقة كانت تخضع خلال حكم الملكة شمسي للنفوذ الآشوري.
 
في هذه الأثناء طرأ تَغَيُّرٌ على الخريطة السياسية في منطقة الجوف، حيث اعتلت عرش المنطقة ملكة جديدة تُدْعَى (يثيعة)، ويتضح أيضًا من سياق الأحداث خلال هذه الفترة أن المنطقة خرجت، أو ربما حاولت التمرد على التبعية للدولة الآشورية، إذ قامت الملكة العربية (يثيعة) بدعم ثورة البابليين على الدولة الآشورية، حيث شاركت بجيش تحت قيادة أخيها (بسقانو). وعلى الرغم من أن الملك الآشوري سنحاريب الذي حكم بين 705 و 681 ق.م تمكن من هزيمة جيش التحالف العربي البابلي في معركة كيش عام 703 ق.م   إلا أن وقوف ملكة بلاد العرب إلى جانب البابليين في صراعهم مع الآشوريين ينمُّ عن وعي سياسي وتحول في العلاقة بين حاكمة منطقة الجوف آنذاك والآشوريين، ولا ريب في أن مسوغاته كانت الرغبة في الاستقلال بقرار المنطقة، ورفض التبعية لحكام الدولة الآشورية.
 
لم يكتفِ سنحاريب بما تحقق له من نصر، بل إنه سرعان ما جهز حملة حربية وجهها هذه المرة إلى شمالي جزيرة العرب، وعلى ما يبدو من سياق الشواهد التاريخية أن ثمة أمرًا جعل سنحاريب يخصص هذه الحملة للتوغل في بلاد العرب. قد يعود السبب إلى أن حكام منطقة الجوف آنذاك رفضوا دفع الإتاوة المعتادة للدولة الآشورية، إذ إن المصادر تتحدث عن أن الجوف كانت تحكمها ملكة عربية اسمها تلهونة (ربما يقرأ اسمها طلحانة)، ومن المرجح أنها بعد توليها مقاليد الأمور بعد الملكة (يثيعة) رأت أن بإمكانها الامتناع عن دفع الإتاوة إلى الملك الآشوري سنحاريب. من جانب آخر ليس من المستبعد أيضًا أن يكون السبب مرده إلى أن سنحاريب أراد القضاء نهائيًا على محاولات حكام المنطقة الخروج من التبعية الآشورية.
 
وهكذا هاجم سنحاريب معسكر جيش الملكة العربية تلهونة في عام 688ق.م، وألحق بها الهزيمة  ،  وعلى إثر هربها إلى عاصمة ملكها أدوماتو (دومة الجندل) لحق بها سنحاريب ودخل دومة الجندل   حيث تمكن من أسرها بعد ذلك، وأخذ تماثيل معبودات شعبها  ،  وأسر معها أيضًا أميرة عربية تدعى (تبوعة)  ،  وأخذ الجميع إلى عاصمته نينوى.
 
إن دخول سنحاريب دومة الجندل يشكل - دون ريب - منحًى جديدًا في السياسة الحربية بين العرب والآشوريين، فالمتتبع لسير الأحداث وما تنبئ عنه روايات النصوص الآشورية ذات العلاقة يلاحظ أن الحرب كانت سجالاً بين الطرفين، كما لم يجرؤ أي حاكم آشوري على التوغل لاحتلال مركز سلطة الملكات العربيات في دومة الجندل  ،  حتى الملك الآشوري (شلمنصر الثالث)، فعلى الرغم مما تحقق له من نصر على الملكة العربية (شمسي) فإنه لم يدخل حاضرتها دومة الجندل، بل إنه اكتفى بتعيين رقيب عليها كما ذُكر سابقًا، وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مؤداه: ما الذي تغير في الأمر؟ ولماذا عزم سنحاريب على دخول العاصمة هذه المرة؟ وعلى ما يبدو من سير الأحداث التاريخية، فإن الإجابة عن مثل هذا التساؤل تكمن في أن سنحاريب بما تحقق له من انتصارات في أرجاء دولته في الجنوب والشمال ربما أراد أيضًا أن يخمد الجبهة العربية في الغرب التي كانت تشكل له مصدر قلق دائم، ليس فقط كونها مناطق حيوية، وأن السيطرة عليها ضرورية للتحكم في اقتصاد المنطقة، وتحركات القوافل التجارية، بل أيضًا لأن العرب آنذاك كانوا يشكلون تهديدًا مباشرًا للدولة الآشورية، سواء بتحركاتهم على تخوم الدولة الآشورية الغربية، أو في محاولاتهم المستمرة عقد التحالفات مع أعداء الآشوريين، رغبة منهم في زعزعة أركان الدولة الآشورية والقضاء عليها.
 
على إثر حملة سنحاريب على دومة الجندل وتهجيره ملكتها إلى نينوى، يبدو أن ثمة فراغًا سياسيًا حدث في المنطقة أدى إلى ظهور شخص اسمه (حزاإل) على مسرح أحداث هذه الفترة. وعلى الرغم من أن الطريقة التي أفضت إلى تولي (حزاإل) مقاليد الأمور في دومة الجندل غير واضحة من واقع المصادر المعروفة حتى الآن، إلا أن (حزاإل) هذا لم يظهر من فراغ، فقد أشارت النصوص الآشورية التي تحدثت عن سير حملة سنحاريب على الملكة العربية تلهونة، أن (حزاإل) كان ضمن جيش الملكة تلهونة، وأنه فر معها إلى دومة الجندل بعد أن لحقت بهم الهزيمة  ،  ما يعني أن (حزاإل) الذي كانت المصادر الآشورية اللاحقة تلقبه بـ (ملك العرب)، وأحيانًا أخرى بـ (ملك قيدار) كان من ضمن منظومة السلطة الحاكمة في منطقة الجوف.
 
في هذه الأثناء وقعت أحداث داخل الأسرة الحاكمة الآشورية أدت إلى اغتيال سنحاريب، فتولى من بعده ابنه أسرحدون مقاليد الأمور في بلاد آشور وواصل سياسة والده تجاه العرب، ثم لم يلبث أن طرأ على سياسة الابن بعض التغير، حيث اتجه إلى محاولة بناء علاقات سياسية معهم بعيدة عن أسلوب الغزو المباشر، ومن المرجح أن السبب وراء ذلك يكمن في رغبة أسرحدون في تحقيق مخططه الرامي إلى غزو مصر  .  لذلك لجأ إلى محاولة خلق وفاق مع العرب، كي يمدوا له يد العون عندما يوجه جيشه نحو مصر.
 
كان من نتائج ذلك التحول في السياسة الآشورية تجاه العرب أن قَدِم (حزاإل) ملك بلاد العرب إلى نينوى حاملاً الهدايا إلى الملك الآشوري طالبًا منه إعادة أرباب أدوماتو (دومة الجندل) التي كان والده قد سلبها في أثناء حملته الحربية عليها.
 
وأعاد أسرحدون تماثيل دومة الجندل إلى (حزاإل)، بعد أن فرض عليه أتاوة إضافية لما كان يدفعه حكام دومة في السابق قوامها: الذهب، والأحجار الكريمة، والجمال، والتوابل. ويبدو من واقع الشواهد التاريخية أن أسرحدون اشترط عليه أن تكون (تبوعة)   ملكة على دومة الجندل وقبائلها، ولكن سياق أحداث هذه الفترة لا يشير إلى أن (تبوعة) كانت تمارس سلطة سياسية فعلية خلال هذه الفترة، بل من المرجح أن مقاليد الأمور كانت تتركز بيد (حزاإل).
 
في هذه الأثناء يتوفى (حزاإل)   فيخلفه في حكم المنطقة ابنه (يثع) الذي واجه صعوبات داخلية أسفرت عن قيام ثورة ضده بقيادة شخص اسمه (وهب)، ولعل من أبرز أسباب تمرد بعض القبائل العربية في منطقة الجوف بقيادة (وهب) ضد الملك (يثع بن حزاإل) عدم رضاهم عن التبعية المطلقة التي انتهجها (يثع بن حزاإل) للدولة الآشورية؛ مما ترتب عليه زيادة في ميزان مدفوعات قبائل المنطقة إلى الخزينة الآشورية.
 
لم يسفر تمرد (وهب) عن تغير في ميزان القوى في منطقة الجوف، فقد سارع الملك الآشوري أسرحدون بإرسال جيش لنصرة حليفه (يثع بن حزاإل)، تمكن من سحق التمرد، وأسر وهبًا، وجاء به مكبلاً إلى نينوى
 
وعلى الرغم من أن أسرحدون قضى على رأس الثورة، بيد أنه لم يتمكن من القضاء على النـزعة الاستقلالية لدى سكان المنطقة، تلك النـزعة التي أثرت أيضًا على سياسة حليفه (يثع بن حزاإل)؛ مما جعله يعيد النظر في تبعيته المطلقة للدولة الآشورية، ويثور   هو الآخر على أسرحدون معلنًا عدم تبعيته له؛ مما اضطر أسرحدون إلى توجيه جيش لسحق التمرد. وعلى إثر ذلك هرب (يثع بن حزاإل) للنجاة بنفسه إلى عمق الصحراء  .  وهناك أخذ يحرض القبائل العربية ضد الآشوريين، ولكن الجيش الآشوري كان لهم بالمرصاد، إذ تمكن من تفريق فلولهم، فتفرقت أيدي العرب مرة أخرى جراء جبروت الآلة الحربية الآشورية 
 
على إثر ذلك لجأ (يثع بن حزاإل) إلى (نتانو) ملك بلاد (النبيات)، ولكن هذا الملك أدرك آنذاك أن استخدام القوة تجاه الدولة الآشورية غير مجدٍ، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الحلول الدبلوماسية، فتوسط بين (آشور بانيبال) و (يثع بن حزاإل)، واتفق مع (آشور بانيبال) على أن يقوم (يثع بن حزاإل) بالمثول أمامه في نينوى، ليطلب منه الصفح عمّا بدر منه، ويعلن التبعية المطلقة أمامه. وعندما وقف (يثع بن حزاإل) أمام الملك الآشوري لم يفوِّت آشور بانيبال هذه الفرصة، إذ أنـزل به عقوبة قاسية، وحسب إفادة النص فإنه حبسه في مربط الكلاب والدببة، وجعله يحرس بوابة نينوى، بعد أن شق فكه وربطه بحبل في حنكه  
 
كانت (عطية) زوجة (يثع بن حزاإل) في هذه الأثناء تراقب بحذر ما عسى أن يكون مصير زوجها، وحين بلغها ما حل به من عقاب سرعان ما تحالفت مع (نتانو) ملك بلاد النبيات، ومع (عمولدي) ملك قيدار، فجهز المتحالفون جيشًا التحم مع الجيش الآشوري في معركة انتهت بهزيمتهم، وأسرت فيها الملكة (عطية)، (وعمولدي) ملك القيداريين  .  وعلى الرغم من هذه الهزيمة القاسية لملوك العرب إلا أن تحالفهم آنذاك يؤكد من جديد سعي قبائل شمال غربي الجزيرة العربية ورغبتهم في الحد من السياسة التوسعية الآشورية في بلدانهم، والتخلص من هيمنتهم المطلقة على مناطقهم التي ترتب عليها استنـزاف مواردهم الاقتصادية، وفضلاً عن ذلك فإنه لا ريب في أن ما فعله الملك الآشوري مع (يثع بن حزاإل) قد أثار حفيظتهم؛ ما جعلهم يثورون ضده من جديد.
 
إثر ذلك برز على مسرح الأحداث في منطقة الجوف شخص اسمه (أب يثع بن تعري)، وفي بادئ الأمر لم يكن ابن تعري على وفاق تام مع الملك الآشوري (آشور بانيبال)؛ مما جعله يساند ثورة (شمشو موكن) في بابل الذي كان يطمح في أن يتولى زعامة الدولة الآشورية بدلاً من أخيه آشوربانيبال  ،  وعلى إثر قضاء (آشور بانيبال) على تلك الثورة اضطر (أب يثع بن تعري) إلى الرضوخ إلى الأمر الواقع، فما كان منه إلا أن شد رحاله إلى نينوى، وهناك جرى اتفاق   بينه وبين (آشور بانيبال) يلتزم (أب يثع بن تعري) بموجبه بما يأتي:
 
 قبوله التبعية للدولة الآشورية.
 
 يصبح حاكمًا للمنطقة.
 
 يدفع إتاوة سنوية قوامها: الذهب، والجمال، والحمير القوية.
 
وعلى الرغم من أن (أب يثع بن تعري) أبدى موافقته أمام آشور بانيبال على بنود هذه الاتفاقية إلا أن سياق الأحداث اللاحقة يؤكد أنه لم يكن راضيًا عنها، إذ سرعان ما نجده يخرق الاتفاق، ويبدأ من جديد بعقد تحالفات مع القوى العربية الأخرى في المنطقة استعدادًا لصد هجوم الجيش الآشوري الذي لن يرضى عن عدم التزامه ببنود الاتفاقية بينه وبين الدولة الآشورية، وهذا ما حدث بالفعل، عندما وجه (آشور بانيبال) جيشًا ضد (أب يثع بن تعري) وتمكن من هزيمته، فجيء به أسيرًا إلى آشور 
 
وهكذا يتضح من سير الأحداث أن منطقة الجوف كانت مسرحًا لصراع طويل بين الملكات والملوك المحليين وحكام الدولة الآشورية، ويتضح أيضًا أن حكام منطقة الجوف بمفهومها الواسع حاولوا بكل إصرار دفع سيطرة الآشوريين والخروج من هيمنتهم عليهم، ويظهر ذلك جليًا من خلال جملة من الأمور تبرهنها سياقات أحداث تلك الفترة، لعل من أبرزها:
 
 سعي حكام الدولة الآشورية منذ (شلمنصر الثالث) إلى السيطرة على المنطقة، سواء من خلال الوسائل الدبلوماسية، أم من خلال اقتحام المنطقة وإخضاعها بالقوة لسيطرتهم.
 
 توالي الحملات الحربية للحكام الآشوريين على المنطقة، فما إن يعتلي العرش أحدهم حتى يوجه حملاته الحربية نحوها.
 
 تكرر تمرد حكام المنطقة على ملوك آشور، فسيرالأحداث يشير إلى أن الملكات والملوك الذين تتابعوا على حكم المنطقة كانوا في صراع مستمر مع الدولة الآشورية.
 
 قيام حكام المنطقة بالتحالف مع القوى المحيطة ضد السياسة التوسعية الآشورية متمثلاً في بادئ الأمر في مشاركة (جنديبو) العربي مع قوات الدويلات الآرامية في معركة قرقر، ثم قيام الملكة العربية (يثيعة) بالوقوف مع أعداء الملك الآشوري سنحاريب في تمرد بابل بزعامة (مردوخ - ابلا - أدين الثاني)، كل ذلك يحمل مؤشرات واضحة على أن حكام المنطقة ظلُّوا في سعي مستمر للتخلص من الآشوريين والاستقلال بحكم منطقتهم.
 
وعلى هدي من ذلك يتبادر سؤال مؤداه: ما الذي جعل حكام الدولة الآشورية طوال هذه الفترة الزمنية يحاولون بكل إصرار ضمان تبعية المنطقة لهم؟ وما الذي جعل حكام المنطقة المحليين يرفضون التبعية للدولة الآشورية، ويحاولون كلما سنحت لهم الفرصة الاستقلال بحكم منطقتهم، ما جعل الحرب سجالاً بين الطرفين عبر فترة طويلة من الزمن؟ إن الإجابة عن الشق الأول من السؤال تكمن في سياق أحداث التنافس والصراع الخفي بين القوتين العظميين في منطقة الشرق القديم آنذاك، ورغبة كل منهما السيطرة على المنطقة، ففي الشرق تتربص الدولة الآشورية لزعزعة قوة مصر في الغرب، وهذا ما بدأ يظهر حينما أقدم الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث)   749 - 727 ق.م على تكليف قبيلة (أدب إل) العربية بحراسة الحدود مع مصر  ،  محاولة منه لمنع تغلغل النفوذ المصري في بلاد الشام وشمالي الجزيرة العربية، ثم تجسد مخطط الدولة الآشورية واقعًا ملموسًا عندما أقدم الملك الآشوري (أسرحدون) عام 647 ق.م على تحقيق أحلامه بفتح مصر  .  من هنا كان لزامًا على حكام الدولة الآشورية من أجل تحقيق هدفهم المتمثل في غزو مصر، تأمين المناطق والطرق المؤدية إليها، وضمان تبعية سكان المنطقة لهم، وهذا ما حدث فعلاً عندما استنجد أسرحدون بقبائل شمالي الجزيرة العربية لمساعدته في تحقيق حلمه بغزو مصر، ولربما لَوْ لم يقفوا معه لما تحقق له ذلك. كل ذلك يعزز حقيقة أن محاولات الآشوريين السيطرة على منطقة شمالي غرب الجزيرة العربية كانت لـ:
 
 السيطرة على المنطقة والاستفادة من مواردها الاقتصادية الضخمة آنذاك.
 
 تهيئة المناخ المناسب وضمان تبعية المنطقة وولاء قبائلها لهم تمهيدًا لتحقيق الحلم الآشوري في فتح مصر.
 
أما الإجابة عن الشق الثاني من السؤال فتكمن في حقيقة الطبيعة البشرية الجانحة دومًا إلى الاستقلال، والتفرد باتخاذ القرار، ورفض الهيمنة الخارجية. واستقراء سياق الأحداث التي لازمت طبيعة العلاقات العربية الآشورية خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد يشير إلى أن حكام الدولة الآشورية مارسوا سياسة صارمة تجاه قبائل شمالي الجزيرة العربية تعتمد على الغزو المباشر، وتدمير الممتلكات ومقومات الحياة، ليس ذلك فحسب، بل عمدوا إلى إهانة شعوب المنطقة وإذلالهم من خلال سبي نسائهم، أو أخذ معبوداتهم، أو إرغام حكامهم على المثول أمامهم، وتعذيب بعضهم، وفضلاً عن ذلك فرض حكام الدولة الآشورية على قبائل المنطقة إتاوات كثيرة، لا ريب في أن تكاليفها أثقلت كاهل سكان المنطقة وشعوبها، وحرمتهم الاستفادة الكاملة من موارد منطقتهم، فالملاحظ من خلال نصوص الحكام الآشوريين أن كل واحد منهم ما إن يعتلي عرش الدولة الآشورية حتى يبادر إلى زيادة حجم الإتاوة المفروضة على المنطقة وقبائلها، كل ذلك كان مسوغًا لأن يحاول حكام المنطقة التصدي للسياسة التوسعية الآشورية في مناطقهم، برفضهم دفع الإتاوات المفروضة عليهم تارة، وتارة أخرى بمهاجمة تخوم الدولة الآشورية، والتحالف مع القوى المعادية للدولة الآشورية، كما فعل الملك (جنديبو) في تحالفه مع حكام الدويلات الآرامية ضد (شلمنصر) الثالث في معركة قرقر، وكذلك مشاركة الملكة (يثيعة) للثوار البابليين بزعامة (مردوخ ابل أدين) ضد الملك الآشوري (سنحاريب).
 
لقد حفظت حوليات الملوك الآشوريين بدءًا من فترة حكم الملك الآشوري (شلمنصر الثالث) حتى فترة حكم (آشور بانيبال) معلومات تاريخية قيِّمة عن المنطقة يمكن من خلالها رسم تصور ليس فقط عن الوضع السياسي آنذاك، بل هي مفيدة أيضًا في معرفة بعض الحقائق التاريخية عن الأوضاع الاقتصادية للمنطقة آنذاك.
 
وعلى الرغم مما يشوب المدونات الآشورية ذات العلاقة بالمنطقة من اقتضاب واختصار في سرد التفاصيل، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا لكثرة التأويلات وتعدد الآراء، إلا أنه يتضح من خلال المصادر الآشورية إجمالاً أن أدوماتو (دومة الجندل)، وهي التي أطلق عليها الملك الآشوري سنحاريب في أثناء حديثه عن حملة أبيه عليها اسم (حصن العرب)، كانت المركز السياسي والديني لعدد من ملكات العرب وملوكهم الذين تناوبوا على حكمها مدة تربو على مئتي عام، ووفق رواية المصادر الآشورية يمكن ترتيبهم على النحو الآتي:
 
 جنديبو (معاصر للملك الآشوري شلمنصر الثالث)  . 
 
 زبيبي (معاصرة للملك الآشوري تيجلات بيلصر الثالث).
 
 شمسي (معاصرة للملك الآشوري تيجلات بيلصر الثالث، والملك الآشوري سرجون الثاني).
 
 يثيعة (معاصرة للملك الآشوري سنحاريب).
 
 تلهونة (معاصرة للملك الآشوري سنحاريب).
 
 حزاإل (معاصر للملك الآشوري أسرحدون).
 
 تبوعة (معاصرة للملك الآشوري أسرحدون).
 
 يثيع بن (حزاإل) (معاصر للملك الآشوري أسرحدون، والملك الآشوري آشوربانيبال).
 
 عطية (معاصرة للملك الآشوري آشور بانيبال).
 
 أب يثع بن تعري (معاصر للملك الآشوري آشور بانيبال).
 
قدمت حوليات ملوك الدولة الآشورية فضلاً عن ذلك معلومات مفيدة في معرفة الوضع الاقتصادي للمنطقة خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد الذي تميز بعدة مميزات منها: الموقع المميز لمنطقة الجوف في شمال غربي الجزيرة العربية حيث توافر المياه، والأراضي الخصبة، ووقوعها على مسار طريق التجارة القديم القادم من أقصى جزيرة العرب باتجاه المراكز الاستهلاكية للتجارة العربية في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ما ينبئ بأن المنطقة كانت تشهد ازدهارًا اقتصاديًا، ولعل ما يعزز ذلك تلك الحملات العسكرية المتكررة لحكام الدولة الآشورية على المنطقة، رغبة منهم في ضمان تبعيتها لهم، أو سيطرتهم المطلقة عليها كي يضمنوا بذلك التحكم المباشر بمواردها الاقتصادية وتوجيهها حسب ما يشاؤون.
 
ويتبين حجم ثروات المنطقة من خلال ما تحدثت عنه رواية النصوص الآشورية ضمن سياق سردها لما كان يفرضه الملوك الآشوريون على حكام المنطقة وسكانها من إتاوات يتوجب عليهم دفعها لردّ الاحتلال المباشر لمناطقهم؛ إذ تشير معطيات النصوص إلى أن (شمسي) ملكة بلاد العرب اضطرت إلى دفع إتاوة إلى الملك الآشوري (تيجلات بيلصر الثالث) مقدارها 30 ألف جمل، و 20 ألفًا من الغنم، و 5 آلاف كيس من التوابل  
 
كما تشير نصوص الملك الآشوري سرجون الثاني إلى حجم ثروات المنطقة، إذ ذكر في حولياته أنه تسلم إتاوة قوامها: الذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، والعاج، والبذور، والخيل، والجمال، وأصناف عدة من الطيب (اللبان) من فرعون مصر، ومن شمسي ملكة بلاد العرب، ومن يثع أمر ملك سبأ  .  وعلى الرغم من أن النص لا يشير بدقة إلى نوع الإتاوة التي قدمتها الملكة العربية شمسي ضمن مجموعة الهدايا المقدمة إليه إلا أن المرجح أن الجمال والخيول المقدمة إلى سرجون قُدمت من قبلها.
 
كذلك فإن نصوص الملك الآشوري سنحاريب لا تخلو أيضًا من حقائق مهمة عن الوضع الاقتصادي في المنطقة، إذ وردت الإشارة فيها إلى أنه غنم من الملكة العربية تلهونة عددًا كبيرًا من الجمال. كذلك الأمر نفسه مع ما فرضه ابنه أسرحدون من إتاوة على المنطقة، فهو يذكر في حولياته أنه زاد من كمية الإتاوة التي فرضها أبوه سنحاريب على دومة الجندل؛ بما مقداره خمسة وخمسون جملاً، كما فرض على (يثع بن حزاإل) ملك قيدار وبلاد العرب جزية إضافية مقدارها عشر أوقيات (نحو 505 جرامات) من الذهب، وألف قطعة من الأحجار الكريمة، وخمسون جملاً، وألف كيس من التوابل  
 
وعلى إثر هزيمة (آشور بانيبال) لملك بلاد العرب (يثع بن حزاإل) الذي حاول التمرد على الملك الآشوري، وامتنع عن دفع الإتاوة له، يشير النص إلى أنه غنم منه عددًا لا يحصى من الحمير والجمال والأغنام  .  ونظرًا لكثرتها - حسبما يشير إليه النص - فقد اكتظت بها بلاد آشور الأمر الذي جعل آشور بانيبال يقوم بتقسيمها على رعاياه؛ ما أدى إلى تدني سعر الجمل في سوق آشور إلى مبلغ زهيد  .  وحينما نصب آشوربانيبال (أب يثع بن تعري) ملكًا على بلاد العرب بدلاً من (يثع بن حزاإل) قام بفرض إتاوة سنوية عليه قوامها: الذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، والجمال، والحمير القوية  
 
وهكذا فإن رواية الشواهد التاريخية تؤكد أن المنطقة كانت خلال تلك الفترة تشهد ازدهارًا اقتصاديًا قويًا. فالغنائم، أو الإتاوات التي كانت تتدفق كل عام إلى نينوى، تنبئ أن سكان المنطقة وحكامها كانوا يتمتعون بأوضاع اقتصادية جيدة، مكنتهم من رد الاحتلال المباشر عن منطقتهم، وبعد أن بزغ نجم الدولة البابلية سقطت الدولة الآشورية.
 
شارك المقالة:
41 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook