تاريخ العمران في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
تاريخ العمران في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

تاريخ العمران في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
ليس من السهل تحديد بداية الاستقرار والعمران في منطقة الباحة، ولكن الذي لا شك فيه هو أن الاستقرار وبناء تجمعات أو مراكز عمرانية لم يكن مباشرة بعد بدايات وصول السكان إلى هذه المنطقة. ويمكن عدّ ذلك حالة عامة تسري على كل المناطق في المملكة أو أي مكان في العالم. والسبب في ذلك يعود إلى أن البدايات للوصول إلى مكان معين تبدأ بالاكتشاف ومعرفة إمكانات المكان الطبيعية ومدى قدرتها على دعم استقرار البقاء في هذه المنطقة أو تلك ثم يلي ذلك الاستقرار. تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن بدايات وصول السكان واستقرارهم في أراضٍ تشملها منطقة الباحة في الوقت الحاضر كان قبل الميلاد بأكثر من مائة عام  
 
ولا شك في أن منطقة الباحة، شأنها في ذلك شأن بقية الأجزاء الجنوبية الغربية من المملكة، تحتوي على شواهد وبقايا وآثار عمرانية يمكن الاستدلال من خلالها على أن الاستقرار البشري فيها كان قديمًا، وإن كانت هناك صعوبة في تحديد بدايات الاستقرار، ولكن من المؤكد أن الاستقرار في هذه المنطقة كان في فترة قبل الرسالة المحمدية؛ لأن صلات كانت لأهلها بالأجزاء الشمالية وخصوصًا في مكة المكرمة قبل بزوغ فجر الإسلام.
 
وعندما جاءت الرسالة المحمدية وبدأت حقبة جديدة من العلاقات مع مكة المكرمة تطال قبائل عدّة في الجزيرة العربية، كان لا بد لسكان المنطقة في ذلك الوقت من أن تكون لهم صلة بطريقة ما بهذه الدعوة الفتية. وبالفعل فإن كتب التاريخ تتحدث وبكل وضوح عن علاقة وثيقة بدأت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ بعض أفراد من قرى ما زالت موجودة حتى اليوم بالمنطقة. ولعل من أشهرهم وأول من ابتدأ العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبناء تلك المنطقة هو الطفيل بن عمرو الدوسي الذي أسلم بعد فتح مكة مباشرة، والذي أصبح مندوب الرسول إلى قومه دوس في منطقة الباحة حيث عاد إلى قومه وأسلم على يديه 80 رجلاً وأحرق صنم ذي الكفين وهو صنم مشهور في أراضي قبيلة دوس مع صنم آخر أكثر شهرة هو صنم ذي الخلصة الذي تم هدمه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  
 
إن هذه الأمور المتعلقة بذهاب هذا الرجل إلى مكة من دوس ووجود الصنمين تعطي دلالة على وجود قرى واستقرار عمراني قديم في هذه المنطقة دفعهم، مثل غيرهم من قبائل الجزيرة العربية، إلى ممارسة نوع من عبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه كانوا من أوائل القبائل السباقة لاعتناق الإسلام بالمقارنة مع البعد المكاني النسبي عن منطقة مكة المكرمة فأسلموا وحسن إسلامهم  
 
لقد انضم عدد من أبناء قبائل غامد وزهران ليشكلوا دعمًا بشريًّا للجيوش الإسلامية التي اتجهت إلى مناطق عدة خارج الجزيرة العربية، حيث إنهما القبيلتان اللتان كانتا تشكلان كل سكان منطقة الباحة ولا يزال أبناء القبيلتين يشكلون الغالبية العظمى من سكانها في الوقت الحاضر. وعلى هذا الأساس سميت الإمارة في بداية تأسيسها في المنطقة عام 1351هـ/1932م باسم (إمارة بلاد غامد وزهران)  
 
وتحدث عدد من المصادر والمراجع التاريخية عن بعض الأمكنة، مثل: الجبال، والأودية، والأشجار في تلك المنطقة، وتطرقت إلى علاقة الناس بها. كما أن المراجع القديمة للأصفهاني والهمداني وغيرهم لم تهمل المراكز العمرانية المتمثلة آنذاك في القرى، حيث لم تكن هناك مدن في المنطقة. وقد ذكر الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب عددًا من القرى وكذلك الأودية التي تضم مجموعة من القرى التي توجد في منطقة الباحة في الوقت الحاضر ولا زالت بالاسم نفسه، مثل وادي بيدة   الذي يعد من أهم الأودية الزراعية في المنطقة، حيث يقع في شمالها، ويشكل رافدًا رئيسًا لوادي تربة. ويحتضن وادي بيدة أكثر من 20 قرية في الوقت الحاضر. كما يضم الوادي عددًا كبيرًا من أثار لقرى تهدمت ولا تزال هذه الآثار قائمة ومتناثرة على جوانب الوادي وعلى امتداد أكثر من 20كم.
 
ومن أمثلة القرى التي ورد اسمها في المصادر القديمة: قرية برحرح التي وردت مصحفة باسم بزحزح في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني والصحيح أنها قرية برحرح ولا تزال موجودة بهذا الاسم في شمال غربي المنطقة في نطاق السراة  
 
وقد أورد بروكهارت وصفًا لقرية برحرح في نطاق السراة ولأراضي قبيلة زهران في ذلك الجزء على الرغم من أنه لم يطأ أراضيها، ولكنه سأل بعض الحجاج الذين مروا بتلك المنطقة. يقول بروكهارت "تقع برحرح في الجزء الأقصى الشمالي من بلاد زهران. وهي مقاطعة مسكونة بسكان يحملون الاسم نفسه (أي اسم القبيلة) وزهران تُعدُّ من أكثر المناطق خصوبة في السلسلة الجبلية على الرغم من تفرق قراها بعضها عن بعض بنطاقات من الصخور الجرداء"  .  وبالطريقة نفسها التي استقى بها معلوماته عن برحرح وصف قرية المخواة، وهي في نطاق تهامة بمنطقة الباحة، حيث قال: "المخواة مدينة كبيرة على بعد تسعة أيام سفر من مكة المكرمة لقافلة (جمال) تسير ببطء. وفيها مبانٍ حجرية وسوق يفد إليه الرجال من زهران والمناطق المجاورة لبيع منتجاتهم إلى التجار من مكة وجدة"  .  وقد أعطى للمخواة أهمية كبيرة فيما يتعلق بدورها التجاري وعلاقتها بمكة المكرمة؛ وبخاصة أوقات السلم حيث ذكر أنها كانت تزود مكة المكرمة في ذلك الوقت بنحو ثلث احتياجاتها من مختلف الحبوب  .  كما أن ثيسيجر الذي يعد من الكتاب المحدثين وصف المخواة بقوله: إنها بلدة تتكون من مبانٍ ذات دور واحد وتقع عند ملتقى أودية، وتقع بين جبل شدا وجبال السراة - أي في تهامة وأن فيها سوقًا أسبوعيًّا ينعقد يوم الخميس، ويعتليها أي بالقرب منها قرية خربة  .  وقد ذكر أوربيون آخرون بعض الأمكنة في منطقة الباحة، مثل: كورن ولس الذي لم يزر الباحة؛ ما جعله عرضة لارتكاب عدد من الأخطاء في كتابته عن الأسماء والأمكنة وتبعيتها إلى القبائل ونحو ذلك  . 
 
إن هناك عددًا من القرى والأودية والأمكنة في منطقة الباحة وردت في كتب الأقدمين، مثل: وادي عليب، ووادي الأحسبة، ووادي دوقة  في تهامة، ووادي ثروق ووادي، العقيق، ووادي بيدة بالسراة بالإضافة إلى بعض القبائل، مثل قبيلة دوس  
 
ولا شك في أن منطقة الباحة، شأنها في ذلك شأن بقية مناطق المملكة، تغيرت كثيرًا في نموها العمراني وخصوصًا خلال القرن الرابع عشر الهجري/القرن التاسع عشر الميلادي. وقد كان النمو العمراني بطيئًا وتدريجيًّا في كل مناطق المملكة خلال عدد من القرون مضت، لكن هذا النمو والتغير والتطور تسارع بشكل كبير خلال 40 عامًا الماضية، ما زاد من النمو الحضري، وتسارع استقرار سكان البادية في المدن والقرى. فالمنطقة تحوي تنوعًا في تضاريسها ومناخها، وهذا ينعكس على إمكاناتها الاقتصادية. ويقود ذلك بطريقة أو بأخرى إلى التأثير على توزيع المراكز العمرانية.
 
ولا شك أيضًا في أن التضاريس قامت بدور مهم في توزيع المراكز العمرانية في السابق. تمتلك المنطقة تنوعًا في المظهر التضاريسي بين الهضبي في الشرق والشمال الشرقي إلى الحافات الجبلية في الجزء الأوسط الذي يمتد باتجاه شمالي غربي جنوبي شرقي، والمتمثل في حافة السراة، إلى نطاق تهامة المنخفض الذي تتخلله تلال وجبال منعزلة ويخترقه عدد من الأودية. لقد فرض هذا الوضع التضاريسي الجبلي في معظمه على سكان المنطقة عمومًا في السابق أن يبنوا قراهم على السفوح الجبلية المرتفعة في الغالب وكان هناك سببان رئيسان لاختيار تلك المواقع. السبب الأول هو استغلال الأراضي المنبسطة نسبيًّا في الزراعة؛ لأن الأراضي الزراعية أو الصالحة للزراعة عمومًا محدودة. أما السبب الثاني فهو الناحية الأمنية  .  حيث إن بناء القرى على الأجزاء المرتفعة يسهل الدفاع عنها واكتشاف تحركات العدو؛ وبخاصة في الفترات التي اعتراها قصور في الناحية الأمنية قبل توحيد المملكة. كما أن القرى كانت تبنى على جوانب الأودية وفي أجزاء مرتفعة نسبيًّا، ولكن ليست بعيدة عن ضفاف الأودية، لكي تستغل ضفاف الأودية في الزراعة. وقد كانت منازل القرى متلاصقة ومشترك بعضها مع بعض في الجدران. وكان هناك تخطيط لطرقها الداخلية وتنسيق وكذلك للمداخل والمخارج لهذه القرى. ولم تكن هناك بيوت منعزلة بعضها عن بعض حتى نحو ما قبل 50 عامًا، وكل ذلك حتمه الوضع الاجتماعي والأمني.
 
ولكن الوضع اختلف تمامًا هذه الأيام، حيث أصبح النمط العمراني متغيرًا وأصبح التركيز على الخصوصية ومحاولة البعد عن الآخر في البناء خصوصًا في القرى، والسبب ليس الرغبة في البعد في حد ذاته ولكن نتيجة لاستتباب الأمن وتوافر الخدمات التي قللت من التعاون الجماعي لسكان القرية. كما أن زيادة عدد السكان الكبيرة وارتفاع الدخل السنوي للفرد وزيادة أعداد أفراد الأسرة الواحدة دفعت بالناس إلى بناء مساكن كبيرة حيث لم تعد هناك مساحات كبيرة في القرية نفسها تتسع لهذه المساكن لذلك زحف الناس إلى مواقع أبعد، بل إن بعضهم بنى على ما ورثه من أراضٍ زراعية؛ لأنها أصبحت صغيرة بعد توزيعها بين الورثة، ولم يعد لها ذلك المردود الاقتصادي.
 

مراكز العمران الريفي والحضري

 
كانت الغالبية المطلقة من المراكز العمرانية في منطقة الباحة حتى قبل نحو 40 عامًا تتمثل في مراكز عمرانية ريفية وتجمعات سكانية محدودة لسكان البادية. ولا شك في أن المراكز العمرانية في المنطقة مرت بجوانب تغييرية وتنظيمية، حيث طال الحجم والتخطيط وبدء النشأة لهذا المركز العمراني أو ذاك، وهذا يعني اختلافًا في أحجام المراكز العمرانية وأسباب قيام هذه المراكز في مواقعها القديمة والحديثة والدور الوظيفي الذي تقوم به.
 
لقد شهدت المنطقة زيادة في أعداد المراكز العمرانية منذ أن وحد جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - المملكة. بدأت الزيادة في أعداد المراكز في كثير من مناطق المملكة في وقت مبكر حيث بدأ توطين سكان البادية منذ عام 1330هـ/1912م. ولكن هذه الزيادة لم تبدأ في منطقة الباحة إلا منذ قرابة 40 عامًا، وذلك عندما بدأت أعداد من سكان البادية بالاستقرار في الأجزاء الشرقية والشمالية الشرقية. ولكن يمكن القول إن التغير كان في الأحجام للقرى وكان تدريجيًّا أيضًا، ولكنه شهد تغيرًا كبيرًا منذ منتصف التسعينيات من القرن الرابع عشر الهجري/القرن التاسع عشر الميلادي، ولا يزال هذا التغير في أحجام المراكز العمرانية وأعدادها مستمرًا نظرًا إلى التنمية المستمرة وتحسن الأوضاع الصحية التي قادت إلى زيادة أعداد السكان زيادة متسارعة خلال العقود الأربعة الماضية. يبين التعداد السكاني لعام 1425هـ/2004م زيادة في أعداد المدن عن عامي 1394 و 1413هـ/1974 و 1992م وبالتالي في أعداد سكان المدن.
 
لم يكن في منطقة الباحة عام 1394هـ/1974م إلا مدينة واحدة فقط وهي بلجرشي وبلغ عدد سكانها 5073 نسمة، وهذا عدد محدود من عدد سكان المنطقة الذي بلغ 185861 نسمة، ولكن زاد عدد المدن ليصل عام 1413هـ/1992م إلى 5 مدن يزيد عدد سكان كل منها على 5000 نسمة. وبلغ عدد سكان هذه المدن 47404 نسمة من مجموع سكان المنطقة الذي بلغ 332157 نسمة. ويظهر (جدول 29) أن التجمعات والمراكز الريفية زادت لتبلغ 35 مركزًا عام 1413هـ/1992م. وقد بلغ عدد سكان تلك التجمعات 284753 نسمة أي 85.7% من سكان المنطقة.
 
ولم يزد أعداد المدن زيادة كبيرة في عام 1425هـ/2004م حيث لم تزد سوى مدينة واحدة عن عام 1413هـ/1992م أي أنها بلغت 6 مدن وبلغ عدد سكانها 177186 نسمة أي نحو 47% من إجمالي سكان المنطقة. وهذا يعني زيادة كبيرة في أحجام المدن في المنطقة مع تراجع في سكان الريف الذي بلغ عدد سكانه 200553 نسمة يشكلون نحو 53% من سكان المنطقة. وباستمرار وتيرة التنمية وتحسين الخدمات وازدياد أعداد السكان ووجود فرص عمل متنوعة، فإن النمو الحضري بلا شك سيزداد وستظهر مدن أخرى.
 
شارك المقالة:
43 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook