العهد النبوي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد النبوي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

العهد النبوي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
كانت قبيلة قريش أشد القبائل عداوة وكراهية لدعوة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تقتصر محاربة القرشيين للإسلام في حصر أنشطتهم في إطار مكة ومجتمعها، وإنما كانوا يسعون إلى الاتصال بالقبائل والشيوخ في بلدان ونواحٍ أخرى في الجزيرة العربية، فيوصونهم ويحرضونهم على بذل ما يستطيعون لمحاربة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به إلى مجتمع الحجاز، ثم إلى عموم المجتمعات  
 
وكان سكان قبيلتي غامد وزهران في بلاد الباحة (سراة وتهامة) من أوائل الأقوام الذين حُرضوا من القرشيين لمعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف في طريق دعوته. وتذكر لنا كتب التراث الإسلامي قصة الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني الذي كان أحد شيوخ قبيلة دوس الزهرانية وأعيانها، وكان على صلات تجارية واجتماعية مع بعض أعيان قريش كأبي سفيان بن حرب وغيره  ،  لكنه كان من أوائل الداخلين في دين الإسلام. وقصة دخوله الإسلام مع بعض أهل بيته في فترة المرحلة المكية، كما يذكرها ابن هشام أن الطفيل قدم ذات يوم من بلاده إلى مكة، فقابله وجهاء مكة وشكوا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذروه من السماع إليه  ،  ووصفوه بالساحر الذي يفرق بين الرجل وأبيه وأخيه وزوجته، وأعربوا له عن خوفهم عند سماعه أن يدخل فيما يدعو إليه، كما حصل لبعض القرشيين الذين دخلوا في الإسلام من قبل  ،  وقد تأثر الطفيل مما سمعه من أشراف قريش عن الرسول صلى الله عليه وسلم فوضع في أذنيه كرسفًا (قطنًا) كي لا يسمع ما يقوله صلى الله عليه وسلم  ،  وعندما أدرك الطفيل أنه قادر على أن يميز بين الخبيث والطيب حدثته نفسه أن يسمعه فإذا كان ما يقوله صلى الله عليه وسلم حسنًا قبله، وإن كان دون ذلك تركه، وكأنه لم يسمع شيئًا، ثم ذهب إلى المسجد فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي فسمع منه كلامًا ما سمعه قبل ذلك من لسان بشر، وعندما أصابت آيات القرآن قلب الطفيل فتحت مغاليق قلبه للإسلام، فأسرع إلى دار الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يعرض عليه الإسلام، ثم ما لبث أن اطمأن قلبه بالإسلام فأسلم  .  وعرض الطفيل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل رسالة الإسلام إلى قومه دوس في أرض غامد وزهران، حيث إن له فيهم منـزلة وهو فيهم مطاع، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وأن يجعل الله له عونًا في حمل الرسالة إلى قومه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له آية  ،  وبدأ دعوته بالأقربين عقب عودته إلى منطقة الباحة فعرض الإسلام على أبيه فأسلم بعد أن قام وتطهر، وقال: "يا بني ديني دينك"، ولكن أمه أنكرت الإسلام  .  كما وجد الطفيل زوجته تميل إلى الإسلام، فقال لها: "اذهبي إلى ذي الشرى   وتطهري منه" ففعلت ذلك ثم أسلمت  
 
وكانت معارضة دوس شديدة لدعوة الطفيل، ويتضح ذلك حينما دعا قومه إلى الإسلام، فكثر رفضهم، واشتد إنكارهم له، وبعد أن أصابه اليأس من إسلام قومه عاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو على قومه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية وقال "اللهم اهدِ دوسًا"   وفي رواية أخرى "اللهم اهد دوسًا وارفق بها"، وقال له ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم  
 
ويعود موقفهم المعارض من الإسلام إلى ميراثهم الوثني الذي حال بينهم وبين قبولهم الإسلام، فضلاً عن أن ميراثهم من العادات والتقاليد كان فاسدًا وقدوتهم كانت على ضلال.
 
وعاد الطفيل إلى عشيرته دوس الزهرانية يدعو قومه ومن حولهم برفق، كما أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد امتدت دعوته لهم عددًا من السنوات، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة ومضت غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى (بدر، وأحد، والخندق)، ولم يزل أبناء دوس، ومن جاورهم من عشائر تهامة والسراة الأخرى، على حالهم من الكفر والعصيان  .  ويظهر أن قبيلة دوس، بل عموم قبائل منطقة الباحة ومن حولها قد تأخروا في إسلامهم إلى السنة السابعة للهجرة وما بعدها  
 
وقد بقي الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني يدعو قومه إلى الإسلام منذ عودته من مكة في فترة الدعوة المكية حتى جاءت السنة السابعة للهجرة، ثم خرج ومعه نحو سبعين أو ثمانين رجلاً بذراريهم ونسائهم بمن فيهم أبو هريرة، وعبد الله بن أزيهر الدوسيين رضي الله عنهما  ،  فقدموا المدينة كي ينضموا إلى مجتمع المسلمين فيها  ،  لكنهم وجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لمحاربة اليهود في خيبر فلحقوا به، وأعلنوا إسلامهم بين يديه، ثم قسم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم من غنيمة خيبر  ،  وجعل شعارهم مبرورًا، ثم عادوا معه إلى المدينة فقال الطفيل: يا رسول الله لا تفرق بيني وبين قومي فأنـزلهم حرة الدجاج  .  وقال عبد الله بن أزيهر: "يا رسول الله إن لي في قومي سلطة ومكانًا فاجعلني عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أخا دوس: إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فمن صدق الله نجا، ومن آل إلى غير ذلك هلك، إن أعظم قومك ثوابًا أعظمهم صدقًا، ويوشك الحق أن يغلب الباطل"   وإذا كان الإسلام تغلغل في قلوب بعض الزهرانيين قبل فتح مكة فهذا لا يعني أن مجتمع بلاد غامد وزهران أصبح مسلمًا بصورة كاملة، لأننا نجد بعض الروايات تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الطفيل بن عمرو الدوسي مع بعض قومه المسلمين بعد معركة حنين في السنة الثامنة للهجرة لمحاربة من بقي على الوثنية في بلاد غامد وزهران  ،  وأوصاهم بهدم صنم عمرو بن حممة الدوسي الذي يعرف بذي الكفين  ،  فما كان على الطفيل إلاّ أن أطاع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب النصيحة، فقال صلى الله عليه وسلم للطفيل: "أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله كما يستحيي الرجل ذو الهيئة   من أهله، إذا أسأت فأحسن إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين"  ،  ثم خرج الطفيل بمن معه فحارب بعض المشركين في بلاد دوس وما حولها، ثم هدم صنم ذي الكفين، وجعل يحشو النار في جوفه ويقول:
 
يا ذا الكَفَيْنِ لستُ من عُبَّادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حشوت النار في فؤادكا  
 
وبعد ذلك رجع الطفيل وبعض قومه وعددهم أربعمئة فقابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف بعد مقدمه إليها بأربعة أيام، وكان معهم دبابة ومنجنيق  .  ويتضح أن الهدف من هذه السرية التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم مع الطفيل هو توطيد قدم الإسلام في بلاد غامد وزهران، والقضاء على بقايا المشركين وأوثانهم، ثم تتالت الوفود من هذه البلاد على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. وتشير بعض المصادر إلى وفد غامد الذي قدم المدينة في شهر رمضان من السنة العاشرة، وهم عشرة نفر، فنـزلوا ببقيع الغرقد، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، وانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وأقروا بالإسلام، وكتب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتابًا فيه شرائع الإسلام، وأتوا أُبي بن كعب فعلّمهم قرآنًا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجيز الوفود، ثم عادوا إلى بلادهم  
 
ويذكر ابن سعد أن وفد سلامان الزهراني الأزدي   قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة في شهر شوال من السنة العاشرة، وكانوا سبعة نفر، وعند مقابلته صلى الله عليه وسلم كان خارجًا من المسجد إلى جنازة دعي إليها، "فقالوا: السلام عليك يا رسول الله: فقال: وعليكم، من أنتم، فقالوا: نحن من سلامان قدمنا لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا"  ،  فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لغلامه ثوبان: أنـزل هؤلاء الوفد حيث ينـزل الوفود، فلما صلى الظهر اجتمع بهم فعلمهم شرائع الإسلام، وأعطى كل واحد منهم خمس أواقٍ فضة، وعادوا إلى بلادهم  
 
وتذكر بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد كتب إلى أبي ظبيان الأزدي الغامدي   يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام، لكننا لم نعثر على نص هذا المكتوب  .  وفي كتاب آخر أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي ظبيان عمير بن الحارث الأزدي الغامدي، قال فيه: "أما بعد: فمن أسلم من غامد فله ما للمسلم، حرم ماله ودمه، ولا يعشر ولا يحشر، وله ما أسلم عليه من أرضه"  
 
وتذكر بعض المصادر اسم سعد بن أبي ذئاب الدوسي  ،  الذي يقول: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فاستعملني على قومي، وجعل لهم ما أسلموا عليه من أموالهم"  
 
ويتضح مما سبق أن عموم قبائل غامد وزهران أسلمت بين السنة السابعة والعاشرة للهجرة، وتولى شؤون بلادهم بعض الولاة الدوسيين والغامديين الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل من مكة والمدينة، كالطفيل بن عمرو، وأبو ظبيان، وسعد بن أبي ذئاب، لكن قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حدث ظهور بعض الكذابين المدعين للنبوة أمثال عبهلة، الملقب بـ (الأسود العنسي) في بلاد اليمن وما حولها  ،  فاتخذ من صنعاء نقطة انطلاقه نحو الشمال حتى سيطر على مناطق عديدة بين صنعاء والطائف، وكانت بلاد الباحة من المناطق التي نالها وما حولها الأذى من الأسود العنسي  .  وعند سماع الرسول صلى الله عليه وسلم بظهوره وسوء فعاله أرسل إلى عموم ولاته وجميع المسلمين في البلاد الممتدة من مكة والطائف حتى اليمن يحثهم على التمسك بدين الإسلام، والثبات في تصديهم للأسود العنسي، وحذرهم من الارتداد عن دين الله. ثم أرسل جرير بن عبد الله البجلي مع بعض صحابته، - رضوان الله عليهم - إلى سروات غامد وزهران وما جاورها كي يتصدوا للمرتدين والمؤيدين للأسود العنسي في تلك النواحي  ،  وبعد خروج جرير من المدينة تجاه السروات، وما يقع جنوبها جاءه نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المدينة دون أن يواصل مهمته، وربما أن خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فجع جريرًا ومن كان معه من المسلمين فعاد إلى المدينة كي يقف على مجريات الأحداث فيها.
 
ونجد أن بعض رجال غامد وزهران تألموا لموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك مما قام به الأسود العنسي ومن سانده من أهل الردة، فهذا سواد بن قارب الدوسي الزهراني يحث قومه على التمسك بدين الله وعدم الرجوع إلى غيره، فقال في بعض خطبه لقومه: "يا معشر الأزد إن سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقاوتهم ألاَّ يتعظوا إلاّ بأنفسهم، وأن من لم تنفعه التجارب ضرّته، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل... إلخ"  .  وقد سمع له قومه وتمسكوا بالإسلام فقال في ذلك:
 
جَــلَّتْ مُصِيبَتُــكَ الغَـداةَ سَـواد     وأَرَى  المُصِيبَــةَ بَعْدَهــا تـزْدادُ
أَبْقَــى  لَنَــا فَقْـدُ النَّبـي مُحَـمَّدٍ     صَلّـى  الإلــهُ عَلَيـه مَـا يَعْتـاد
حُزْنًـا لَعَمْـرُكَ فـي الفُـؤاد مُخَامِرًا     أَوَ هَــلْ لِمَـنْ فَقَـدَ النَّبـيَّ فُـؤادُ
كُنَّــا نَحِــلُّ بِـه جَنَابًـا مُمْرعًـا     جَــفَّ  الجَنَـابُ فَـأجْدَبَ الـرُوَّادُ
فَبَكَــتْ  عَلَيـهِ أَرْضُنَـا وَسَـمَاؤُنَا     وَتَصَــدَّعَتْ وَجْــدًا بِـهِ الأَكْبَـادُ
كَـانَ  العَيَـانُ هُـوَ الطَرِيفَ وَحُزْنُه     بَــاقٍ لَعَمْـرُكَ فـي النُفُـوسِ تِلادُ
إنَّ النَّبِـــي وَفَاتُـــه كَحَيَاتِــهِ     الحَــقُّ حَــقٌّ والجِهَــادُ جِهَـادُ
لَــوْ قِيـلَ تَفْـدُون النِّبِـيَّ مُحَـمَّدًا     بُــذِلَتْ  لَــهُ الأَمْــوَالُ وَالأَولادُ
وَتَسَـارَعَتْ  فِيـهِ النُّفُـوسُ ببَذْلِهَـا     هَـذَا  لَــهُ الأَغْيَــابُ والأَشْـهَادُ
هَــذَا  وَهَــذَا لا يَــرُدُّ نَبِيَّنَــا     لَــوْ  كَــانَ يَفْدِيـهِ فَـدَاهُ سَـوَادُ
إنَّــي أُحَــاذِرُ وَالحَـوَادِثُ جَمَّـةٌ     أَمْــرًا لِعَــاصِفِ رِيحِـهِ إِرْعَـادُ
إنْ حَــلَّ مِنْـه مَـا يُخَـافُ فَـأَنْتُمُ     لِلأَرْضِ إنْ رَجَــفَتْ بِنَــا أَوتَـادُ
لَـو  زَادَ قَـومٌ فَـوقَ مُنْيـة صَاحِبٍ     زِدْتُــمْ  وَلَيسَ لِمُنْيــةٍ مُــزْدَادُ  
 
شارك المقالة:
122 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook