العهد الراشدي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد الراشدي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

العهد الراشدي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
وعند عودة جرير البجلي وصحبه إلى المدينة المنورة وجدوا المسلمين قد اجتمعوا على تنصيب أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، ووجدوا أبا بكر غير راضٍ عن رجوعهم من المهمة التي كلفهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلاّ الذهاب إلى أرض السراة لمحاربة من ارتد من عشائر تلك البلاد قبائلها، فساروا إلى بلاد وقبائلها بجيلة وخثعم ودوس والحجر وغيرهم فحاربوا من ارتدَّ أو عاد إلى الوثنية وتغلبوا عليهم  
 
والواقع أن المرتدين في بلاد غامد وزهران كانوا قلة، وبخاصة إذا قورنوا ببقية أجزاء شبه الجزيرة العربية   فالأسود العنسي - كما أشرنا - ظهر في حواضر اليمن الكبرى، ثم مدَّ نفوذه شمالاً حتى نجران وجرش وسروات غامد وزهران، ووجد بعض المؤيدين لدعوته في تلك الأجزاء بل وجد من بين أهل تلك البلاد من يتولَّى قيادات عامة ينوبون عنه في السير بحركة الارتداد في أوطانهم، فيقنعون من بقي على دين الإسلام، ويحببون إليهم الردة، أو يهاجمون من يقف في طريقهم من مسلمي البلاد أنفسهم، أو من سيأتي من قِبل المدينة المنورة وما حولها ويحاربونهم. ومن أولئك المؤيدين للعنسي عمرو بن معد يكرب الزُبيدي بأرض جنب (قحطان) وخثعم المجاورين لمنطقة الباحة من الجنوب الذي تزعم وفد زُبيد عندما قدموا إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد ظهور العنسي ارتد عمرو وانضم إلى حزب المرتدين، فجعله العنسي نائبًا عنه في البلاد الممتدة من نجران جنوبًا إلى بيشة والباحة وتربة شمالاً  ،  وبرز إلى جانب عمرو مع العنسي قيس بن عبد يغوث الأزدي المرادي الذي ولاه العنسي إمرة الجيش العامة، كما شارك مع العنسي معاوية بن قيس الجنبي، ويزيد بن الأفكل الأزدي، وجميعهم من قبائل السراة الواقعة بين نجران والطائف  .  ويورد الطبري تجمع بعض الأفراد من عشائر بجيلة، وخثعم، وغامد وزهران، وأفخاذ أخرى في تهامة والسراة، ثم انضواءهم تحت زعامة حميضة بن النعمان بن حميضة البارقي، ثم إعلانهم ارتدادهم   وربما اتحدوا مع أعوان الأسود العنسي، ونهجوا نهج المرتدين في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة امتناعهم عـن دفع الزكاة، وعدم التقيد ببعض أحكام الإسلام.
 
والسؤال المطروح: كم كان حجم المرتدين في منطقة الباحة؟ وبالنظر إلى أن المصادر الأولى لا تسعفنا بمعلومات وافرة حتى نستطيع من خلالها معرفة حجم حركة الارتداد في البلاد المعنية بالدراسة في هذا البحث، ولكن في اعتقادنا - وكما أشرنا سابقًا - أن حجمها كان أقل بكثير من حجمها في أجزاء أخرى من شبه الجزيرة، بدليل أنه عندما عزم الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه على محاربة المرتدين في كل مكان، فإنه لم يرسل جيشًا خاصًا إلى تلك البلاد، وإنما أرسل جيشًا مر بمكة المكرمة ثم الطائف، ثم سلك طريقه عبر السراة حتى وصل صنعاء في اليمن، ومرور مثل ذلك الجيش بسروات الطائف، وغامد وزهران، وجرش (عسير) جعله يصطدم ببعض المرتدين الذين يبدو أن حجمهم وخطرهم لم يصل إلى مستوى خطورة وحجم جماعة مسيلمة الكذاب أو طليحة بن خويلد الأسدي أو مالك بن نويرة ومن ارتد معهم، أو غيرهم في أطراف أخرى من جزيرة العرب  
 
ولم يكتف الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه برد جرير بن عبد الله البجلي ومن كان معه إلى حيث أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أرض السروات، وإنما أصدر تعليمات أخرى إلى عماله في مكة المكرمة والطائف يأمرهم أن يرسلوا البعوث إلى الباحة وعسير (تهامة وسراة)، بل إلى أجزاء عديدة من بلاد اليمن ليجمعوا من بقي على الإسلام هناك، ثم يجاهدوا بهم من ارتد عن دين الله، فما كان من أمير مكة المكرمة عتـاب بن أسيد، إلاّ الامتثال لأمر الخليفة، وأرسل أخاه خالد بن أسيد إلى الأجزاء التهامية الواقعة جنوب مكة المكرمة والممتدة إلى بلاد اليمن  .  كذلك أرسل والي الطائف، عثمان بن أبي العاص بعثًا إلى بلاد السروات الممتدة من جنوب الطائف إلى اليمن، فذهب ذلك البعث حتى اجتمع بجرير بن عبد الله البجلي في وسط السراة ببلاد دوس وخثعم والحجر، ثم ذهبوا جميعًا حتى التقوا بحميضة البارقـي، ومن كان معه من المرتدين في سراة جرش (عسير) فحاربوهم حتى هزموهم ومزقوهم شـر ممزق  ،  وفر قائدهم حميضة بن النعمان البارقي   فارتجل عثمان بن أبي ربيعة شعرًا في هزيمتهم قائلاً:
 
فضضنــا  جـمعهم والنقـع كـاب     وقـد تعـدى علـى الغـدر الفتـوق
وأبــرق  بــارق  لمــا التقينـا     فعـادت  خلّبًــا تلــك الـبروق  
كما أدى إصرار الخليفة أبي بكر رضي الله عنه على قتال المرتدين إلى تجهيز جيوش عديدة في المدينة، ثم أرسل كل واحد منها إلى ناحية لكي يتصدى للمرتدين، فكان نصيب بلاد تهامة والسراة واليمن جيشًا أرسله تحت قيادة المهاجر بن أبي أمية، فخرج ذلك الجيش متوجهًا صوب مكة المكرمة والطائف، ثم تحرك جنوبًا إلى سروات الباحة وجرش (عسير) حتى اليمن. وفي سروات غامد وزهران التقى المهاجر بن أبي أمية بجرير بن عبد الله، ومن هناك واصل الرجلان سيرهما إلى بلاد جرش (عسير) السروية، وعند منتصف الطريق التقى المهاجر الذي كانت له قيادة الجيوش بعبد الرحمن بن أبي العاص قائد الجيش بإمرة والي الطائف عثمان بن أبي العاص. وانضم إلى هذه الجيوش أيضًا عبد الله بن ثور من تهامة فواصل الجميع سيرهم عبر بلاد الحجر، وبيشة وجرش حتى قدموا على بلاد نجران وما والاها من بلاد اليمـن  .  وبعد معارك كثيرة وصراع طويل تمكن القادة المسلمون من إحراز النصر، وتلت ذلك هزيمة المرتدين واستسلامهم في النهاية وعودتهم إلى الإسلام، إلى أن صارت بلاد نجران وجرش (عسير) والباحة (سراة وتهامة) جزءًا من أجزاء الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه  . 
وبعد ذلك بدأت المرحلة الثانية في تاريخ الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين، وهي مرحلة الفتوحات الإسلامية، فانخرط كثير من التهاميين والسرويين بمنطقة الباحة في جيوش المسلمين مثل غيرهم من عرب شبه الجزيرة العربية، وأبلوا بلاء حسنًا في فتح بلاد الشام، وفارس، ومصر، والمغرب، والأندلس، وغيرها، وعمل كثير منهم على نشر الإسلام في تلك البقاع الإسلامية الجديدة واستقر بعضهم في بعض الحواضر من تلك الأمصار، ثم شاركوا في كثير من الأنشطة السياسية والحضارية.
 
وكان سعد بن أبي ذئاب الدوسي الزهراني واليًا للرسول صلى الله عليه وسلم على قومه في بلاد زهران، وبقي في عمله إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتشير بعض الروايات إلى أن سعدًا قدم على قومه في عهد عمر، فقال: "يا قوم أدوا زكاة العسل فإنه لا خير في مال لا تؤدى زكاته، قالوا: كما ترى، قال: العشر، فأخذ منهم العشر فبعث به إلى عمر فجعله في صدقات المسلمين".
 
إن بلاد غامد وزهران (تهامة وسراة) لم تتغير في وضعها السياسي خلال القرنين الأولين ولا سيما بعد الانتهاء من حروب الردة، ثم صارت من الأجزاء التابعة للخلافة الإسلامية في المدينة المنورة، إذ عيّن الخليفـة أبو بكر رضي الله عنه عليها واليًا ينظم شؤون الناس، ثم سار من بعده الخلفاء الراشدون في تعيين ولاة على تهامة والسراة يقومون على إدارة شؤونهم، والفصل في خصوماتهم، وجباية زكاة أموالهم  
 
وإذا حاولنا معرفة الدور الذي قامت به بلاد غامد وزهران وغيرها من بلاد تهامة والسراة في بعض الأحداث السياسية التي ألمت بالدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين؛ وبخاصة في الفتنة الكبرى في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والعلاقة بين الخليفة علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما نجد أن سكان هذه البلاد أسوة بغيرها من سكان الجزيرة العربية قد تأثروا بتلك الأحداث فمنهم من انضم إلى الخليفتين الراشدين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ومنهم من كان ضدهما، وبخاصة الذين هاجروا من بلادهم وتوزعوا في الأمصار الإسلامية من الحجاز إلى الشام، ومصر، والعراق، وبلاد فارس  .  أما سكان منطقة الباحة المقيمون في أوطانهم فلا تذكر لنا المصادر تفصيلات عن تفاعلهم مع أحداث تلك الحقبة الصعبة، ولكننا لا نستبعد تأثيرهم وتأثرهم بالأحداث، خصوصًا أنهم يقيمون في منطقة حساسة تربط بلاد اليمن بالحجاز.
 
شارك المقالة:
59 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook