العصر الحديث في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصر الحديث في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية

العصر الحديث في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية.

 
ساد منطقة حائل ما ساد غيرها من مناطق نجد من الفوضى والجهل وتفشي الأمية والتشرذم السياسي في كيانات صغيرة ذات نـزعة استقلالية في بداية تاريخها الحديث وكانت دائمة الحروب فيما بينها. ومثلما كان سكان الحاضرة منقسمين إلى كيانات متنافسة فكذلك كان الأمر بالنسبة إلى البادية التي سادتها روح العصبية والتناحر والاقتتال الدائم على الزعامة أو على موارد الماء والكلأ. وقد مرت هذه المنطقة بتغيرات اجتماعية وسكانية كثيرة لم يرصد التاريخ إلا القليل منها، وكان من أبرزها هجرة كثير من أفخاذ قبيلة طَيِّئ إلى الشام والعراق ونتج من ذلك اختفاء اسم قبيلة طَيِّئ وحل محلها قبيلة شمر التي يرى كثير من النسابين أنها بطن من بطون طَيِّئ  
 
وهكذا ورثت شمرٌ طَيِّئًا في الموقع والنفوذ وانصهرت فيها معظم بطونها الأخرى، وأصبحت ذات ثقل سياسي في المنطقة التي صارت تنسب إلى اسمها منذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). ومن المتفق عليه عند النسابين أن قبيلة شمر تتكون من ثلاثة بطون هي: بطن زوبع أو سنجارة، وبطن الأسلم وبطن عبدة. لكن من النسابين من يرى أن كل هذه البطون تنحدر من أصل واحد وهو قبيلة طَيِّئ، في حين يرى فريق آخر أن بطن عبدة ينحدر من جنب من قبيلة قحطان  ،  وهذا يطرح سؤالاً حول كيفية مجيئهم إلى جبل شمر.
 
تذهب الروايات إلى أن عشيرة عبدة كانت تسكن شرقي منطقة عسير في جهات وادي تثليث، ولأسباب غير معروفة هاجرت إلى نجد ليستقر بها المقام أخيرًا في منطقة جبل شمر. ونظرًا لندرة المعلومات حول هذه القضية، فإننا لا ندري لماذا وكيف ومتى تمت هذه الهجرة؟ وقد حاولت بعض المراجع الإجابة عن هذه الأسئلة ولكن من دون دليل قاطع. ومثال ذلك تعدد الروايات حول تحديد تاريخ هجرة عبدة، فمنها ما يشير إلى أنها تمت في القرن الثامن الهجري، ومنها ما يشير إلى القرن التاسع الهجري أو العاشر الهجري (الخامس عشر الميلادي أو السادس عشر الميلادي)، وأخرى تؤخرها إلى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)  
 
ومن الروايات ما يذهب إلى أن هجرة عبدة لم تكن دفعة واحدة، بل كانت على عدد من الدفعات، كما أوردت الرواية أن فئات من عبدة بعد أن استقرت في منطقة حائل عادت إلى مناطقها السابقة في جنوب الجزيرة العربية، وبعد مدة من الزمن عادوا مرة أخرى إلى منطقة حائل. وعلى أي حال فقد استوطنت هذه الفئات من قبيلة عبدة في تلك المنطقة، ومما يثير اهتمام المؤرخ أنها وطدت نفسها في منطقة جبل شمر في وقت قصير، ووصلت إلى درجة من القوة مكنتها من انتزاع أجزاء من تلك المنطقة من زعمائها السابقين، وإجبارهم على مغادرتها حيث يقول شاعر شمر تخليدًا لتلك التطورات:
 
قبلـك  بهيـج حـدروه السـناعيس     من  عقـدة اللـي مـا يحدر قناها  
وهكذا أصبح لهؤلاء المهاجرين الجدد شأن كبير في تاريخ منطقة حائل في العصر الحديث وصل إلى ذروته بتأسيس إمارة آل رشيد.
من ناحية أخرى لا بد من الإشارة إلى ما كان لبلدة قفار  من مكانة تاريخية عندما كانت قاعدة الشمال، وخصوصًا في الفترة ما بين القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، ويرى بعضهم أن معظم سكان مدينة حائل والقرى التابعة لها قد انتقلوا إليها من قفار  .  وتقع هذه البلدة التاريخية جنوب حائل بما يقارب 15كم، وتنقسم قفار إلى قريتين: بدائع قفار وهي الأكبر، ونقرة قفار  .  واستمرت هذه البلدة في نموها حتى بعد بروز حائل بوصفها عاصمة للشمال في عهد إمارة آل رشيد، ولكنها أصيبت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) بكارثة انتشار حمى الملاريا التي قضت على معظم سكانها، ولم يبق منهم سوى عدد قليل من الأسر. وظلت الحمى منتشرة لعدة سنوات، وكانت مضرب المثل في الفناء، لذا تحاشى الناس المرور بقفار لئلا يصابوا بها  
 
تضررت قفار وانخفض عدد سكانها بشكل كبير؛ بسبب تلك الكارثة التي حصدت أرواح كثير من الناس، وربما بسبب الهجرة إلى أمكنة لم ينتشر بها المرض. ومما يؤسف له أننا نجهل كثيرًا حول هذا الموضوع، فنحن لا نعلم كم سنة استمر هذا الوباء، ولا مدى تأثيره في المجتمع، ولا كيفية استيطان البلدة مرةً أخرى، ومن الواضح أن قفار أخذت تستعيد عافيتها مرةً أخرى وأخذ سكانها في التنامي، وخصوصًا بعد توحيدها في ظل الدولة السعودية المعاصرة.
 
لقد تبوأت - كما أشرنا سابقًا - عشيرة عبدة، التي تزعمت قبيلة شمر، مكانةً كبيرةً في شؤون المنطقة وأخذت أعدادها في التزايد، ومنها من ألف حياة البداوة والترحال، وبرز منهم بعض الزعماء مثل آل الجرباء، ومن ناحية أخرى جمعت بعض فئات عبدة بين حياة الاستقرار والبداوة، في حين استوطنت بعض الفئات وامتهنت الفلاحة وبرز من بينها بعض الزعامات مثل آل علي الذين استوطنوا أسفل بلدة حائل، أو ما يعرف بالسويفلة. وذهب محمد بن مهنا آل علي إلى أن إمارة آل علي مرتبطة بوجود عبدة في المركز القيادي لقبيلة شمر بعد حضورها أو عودتها من تثليث - بلاد قحطان - وترؤسها قبيلة شمر  .  وقد ذكر بعض الباحثين أن العائلات التي استقرت وتحضرت نالت قصب السبق في السلطة والإمارة مع تفاوت في قوة السلطة فيما بينها؛ ما أدى إلى بعض الخلافات التي وصلت إلى حد الاقتتال أحيانًا. أما السلطة في البادية فقد " كانت ذات نفوذ أقوى في الحروب والمغازي، كما هو واقع الجربان الذين كان لهم صولة وجولة في بادية شمر في نهاية القرن الثاني عشر الهجري"  
 
ومما يجب قوله أننا نجهل كثيرًا عن تاريخ منطقة حائل في القرون الثلاثة التي سبقت ظهور الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، فنحن لا نعرف كيف كانت حركة القبائل في البادية، ولا كيف تمت حركة الاستيطان. وبناءً على ما توارد من روايات شفوية وغيرها فقد اجتهد بعض الباحثين في ذكر أمراء حائل من أسرة آل علي فيذكر أنه لا المراجع ولا حتى روايات الرواة تسعفنا بتحديد دقيق لبدايته (أي حكم آل علي) إلا أنه متواتر أن الحكم في هذه الأسرة منذ زمن يرجح أن يكون امتدادًا لسلطة الجد الأكبر عطية بن علي الذي قد يكون زمنه في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)  
 
وقد تعاقب على حكم حائل عدد من الأمراء من أسرة آل علي، وكان من أشهرهم محمد بن عيسى بن علي، الملقب بـ (أخو خنساء أو السمن العرابي) الذي كان مشهورًا بكرمه وجوده على ضيوفه. كما ورد ذكر لحفيده عبدالمحسن بن فايز، وفي نهاية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) كان أمير جبل شمر محمد بن عبدالمحسن بن فايز الذي في عهده امتد حكم الدولة السعودية الأولى إلى تلك المنطقة. وكما ذكرنا سابقًا فإن مساكن آل علي كانت في السويفلة، ثم بنى أمراء الأسرة قصرًا يسمى الوشيقي، وعندما جاء محمد بن عبدالمحسن إلى الإمارة أسس قصر برزان الذي اكتمل بناؤه وزادت شهرته أثناء حكم آل رشيد لمنطقة حائل  
 
عهد الدولة السعودية الأولى 1200 - 1233هـ / 1786 - 1817م
 
قبل قيام الدولة السعودية الأولى كانت الأحوال السياسية في منطقة حائل لا تختلف كثيرًا عن بقية مناطق نجد الأخرى، حيث سادت النـزعة الاستقلالية في مختلف البلدان، مُشكّلة بذلك عددًا من الكيانات الصغيرة التي تتسم علاقاتها بالعداء في غالب الأحوال. ومع أن منطقة حائل شهدت ظهور إمارة آل علي منذ وقت مبكر، إلا أن المصادر لم تسعفنا بمعلومات عن مدى امتداد نفوذها، ولكن فيما يبدو أنها كانت محدودة ببلدة حائل. وبنهاية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) كانت الدولة السعودية الأولى قد تمكنت من توحيد وسط نجد وجنوبها، ثم أخذت تتطلع إلى ضم المناطق الشمالية، أي منطقتي حائل والجوف.
 
وقد ذهب أحد الباحثين المحدثين إلى أن الدعوة وصلت إلى حائل في وقت مبكر جدًا، أي في نحو سنة 1162 أو 1163هـ / 1748 أو 1749م، وذلك في عهد الأمير فايز بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي، ودلل على رأيه هذا بوجود بعض العائلات التي استقرت في حائل بعد أن قدم أجدادها بصفتهم فقهاء ورسلاً من الدرعية  .  بالإضافة إلى ذلك فقد ذكر صاحب كتاب "لمع الشهاب" أن الإمام محمد بن سعود تمكن في وقت مبكر من حكمه من إدخال أجزاء من قبيلة شمر تحت طاعته، كما أرسل في أواخر عهده جيشًا مكونًا من ستة آلاف رجل لغزو جبل شمر، وذلك سنة 1178هـ / 1764م 
 
وفي مستهل القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) تمكنت الدولة السعودية الأولى من إحكام سيطرتها على منطقة القصيم. وحسب المصادر الموثقة فإن أول احتكاك بين الدولة السعودية الأولى وأجزاء من قبيلة شمر، أو كما قال ابن بشر "عربان شمر"، كان أثناء مشاركتهم مع حاكم الأحساء، سعدون بن عريعر، في حصاره لبريدة سنة 1196هـ / 1781م. وبعد أربعة أشهر من الحصار لم يتمكن ابن عريعر وحلفاؤه من اقتحام بريدة فاضطر إلى الانسحاب وفك الحصار عنها، فانتهز قادة الدولة السعودية الأولى هذه الفرصة لإظهار قوتهم، لذا قام الأمير سعود بن عبدالعزيز في العام التالي بغارة على فئة من قبيلة مطير، وهم على المستجدة في منطقة حائل  
 
كان حجيلان بن حمد، أمير بريدة أثناء الحصار، من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقام بدور بطولي في التصدي للحصار وإفشاله، كما قام بدور أساسي في ضم منطقة القصيم وتثبيت الحكم السعودي فيها؛ نتيجةً لذلك أصبح حجيلان بن حمد أقوى شخصية في منطقة القصيم، وبحكم موقعه الجغرافي المجاور لمنطقة حائل أوكلت إليه الدولة مهمة توسيع نفوذها في المناطق الواقعة شمال القصيم. فبدأ نشاطه العسكري سنة 1200هـ / 1785م عندما سار بأتباعه من أهل القصيم إلى منطقة حائل، وهناك علم أن قافلة تجارية كبيرة لأهل تلك المنطقة قادمة من البصرة وسوق الشيوخ بالعراق فرصد لها عند بلدة بقعاء حتى وصلت فأغار عليها وأخذ ما كان معها من بضائع بعد أن قتل عددًا من رجالها  
 
وفي العام التالي غزا حجيلان بن حمد جبل شمر وأقام به مدة من الزمن، ولم يعد إلا بعد أن تمكن من ضم المنطقة إلى حكم الدولة السعودية، أو كما قال ابن غنام: " وأقام فيه مدة أيام وليال، وغالب أهل البلاد..، فقدم عليه في ذلك الزمن كثير من بلدان ذلك الوطن، ورغبوا في الدخول والاستسلام"  .  ويفهم من رواية ابن غنام هذه أنه تم إخضاع المنطقة للحكم السعودي، دون ذكر لأي أعمال عسكرية أو أي قتال دار بين الطرفين. ويتفق ابن بشر مع ابن غنام في المعنى العام للرواية حيث قال: " وقصد بلد شمر وضيق عليهم، فطلبوا منه الأمان، وبايعوه على دين الله ورسوله والسمع والطاعة " 
 
وأمام هاتين الروايتين لا بد من أن يتساءل المؤرخ عن أسباب السهولة التي تم بها الاستيلاء على حائل، وموقف أسرة آل علي الحاكمة من هذه التطورات. ومن التعليلات التي يمكن طرحها انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أو على الأقل قبولها من بعض زعماء المنطقة، ولكن المصادر لم تذكر شيئًا من ذلك. أما موقف أسرة آل علي فلم يرد له ذكر لا عند ابن غنام ولا عند ابن بشر، ولكن مؤلف كتاب (كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب) ذكر أن حجيلان بن حمد غزا جبل شمر " في ألفي مقاتل ومئتي فارس، وأقبل عليهم في أيام القيظ، فسلموا له بلا قتال"  .  ومن الواضح أن المقاومة لن تكون فعالة من دون تولي الزعماء قيادتها، ويبدو أن أمير حائل في ذلك الوقت محمد بن عبدالمحسن بن علي أدرك مع بقية أسرة آل علي أن لا فائدة في مقاومة دولة قائمة على أساس دعوي، وقد أثبتت قوتها العسكرية من خلال انتصاراتها في المعارك وتوسعاتها السريعة. بالإضافة إلى ذلك رجح أحد الباحثين أن أسرة آل علي، بزعامة الأمير محمد بن عبدالمحسن "قد رحبت إلى حد ما، بالانضمام إلى الدولة السعودية، وتعاونت مع حجيلان بن حمد في مهمته المتعلقة بإدخال منطقة الجبل تحت حكم تلك الدولة. 
 
ومما لا شك فيه أن إمارة محمد بن عبدالمحسن بن علي قد تعززت وقويت كثيرًا بعد أن أصبح ممثلاً للدولة السعودية، فبعد أن كانت سلطته مقتصرة على بلدة حائل أصبح حاكمًا لكل المنطقة، ولعل ذلك ما شجعه على التعاون مع الدولة الجديدة. وقد ذكر أحد المصادر أن حجيلان بن حمد بعد أن أنهى مهمته في حائل " نصب شيخ الجبل محمد بن علي، وأقام يجاهد"  ،  أي يعمل لتوسيع نفوذ الدولة.
 
وعلى أي حال فإن خضوع منطقة حائل للحكم السعودي اقتصر في بداية الأمر على الحاضرة ولم يشمل بادية قبيلة شمر، التي اتضح موقفها جليًا عندما انضمت، مع غيرها من القبائل، إلى حملة الشريف عبدالعزيز بن مساعد على المناطق الخاضعة للحكم السعودي في نجد سنة 1205هـ / 1790م. وبعد أن شاركت عشائر شمر ومطير في تلك الحملة الفاشلة، تحولت إلى منطقة حائل وتجمعت حول مورد ماء يسمى العِدْوة    تحسبًا لردة فعل الدولة السعودية التي لم تضيع وقتًا، حيث توجه الأمير سعود بن عبدالعزيز على رأس جيش كبير إلى تلك المنطقة. التقى الجمعان في معركة عنيفة سميت بمعركة العدوة، وقد كانت على مرحلتين:
 
 المرحلة الأولى: بدأت بهجوم القوات السعودية على تجمع بوادي شمر ومطير ومن حالفهم، وكان النصر فيها حليف القوات السعودية.
 
 المرحلة الثانية: بدأت بعد الهزيمة السابقة حيث لملم المنهزمون شتاتهم ورتبوا صفوفهم واستنفروا ما يليهم من قبائلهم وغيرهم ممن لم يحضر المعركة الأولى. ثم أقبل هذا التجمع لمهاجمة القوات السعودية المتمركزة في العدوة، وقد كان قائدها سعود بن عبدالعزيز منشغلاً بتوزيع الغنائم على أفراد جيشه "فثبت لهم وأقبلوا إليه مقرنين الإبل..، وكان مقدم البوادي مسلط بن مطلق الجربا، وكان قد نذر أن يجشم فرسه صيوان سعود.. فقتل، وانهزمت تلك البوادي لا يلوي أحد على أحد"  .  وهكذا تمكن الجيش السعودي من هزيمة هذا التحالف مرة أخرى ومد نفوذ الدولة السعودية، ممثلةً في إمارة محمد بن عبدالمحسن بن علي، على كل منطقة حائل.
 
بالإضافة إلى ما حصلت عليه القوات السعودية من غنائم كثيرة، فإن معركة العدوة ثبتت الحكم السعودي على منطقة حائل باديةً وحاضرةً، وأثبتت قوته، كما مهدت لانضمام المناطق الواقعة إلى الشمال منها، وأن معركة العدوة "كان لا بد منها لإمارة آل علي كما هي للدولة السعودية والدعوة التي حملت لواءها"  .  كما كان من نتائج تلك المعركة أن هاجر قسم كبير من قبيلة شمر بزعامة مطلق الجرباء إلى الجزيرة الفراتية بالعراق، واستمرت علاقاتهم غير ودية مع الدولة السعودية، ولذا اشتركوا في بعض الحملات التي وجهها والي العراق العثماني إلى مناطق الحكم السعودي  
 
وكما هي عادة الدولة السعودية الأولى في إسناد مهمة الغزو والتوسع وضم مناطق جديدة إلى حكام الأقاليم المجاورة لتلك المناطق، فقد ازداد نشاط الأمير محمد بن عبدالمحسن بن علي أمير حائل الذي قدر جيشه آنذاك بنحو ألفي مقاتل ومئتي فارس، وقد استهل نشاطه عندما خرج على رأس فرقة من جيشه سنة 1207هـ / 1792م، في غزوة على قبيلة الشرارات في منطقة الجوف وعلى الرغم من رجحان كفته في بداية القتال إلا أن النجدات الشرارية لحقت به وتمكنت من هزيمته. وفي العام التالي خرج إلى منطقة الجوف في جيش من ألفي رجل مع بقية القوات السعودية التي أتت من الوشم والقصيم، وأسندت القيادة العامة إلى محمد بن معيقل، وبعد سلسلة من الأعمال العسكرية تمكن من إخضاع تلك المنطقة للحكم السعودي  
 
وأصبحت منطقة الجوف تتبع إداريًا لأمير حائل، ولما لهذين الإقليمين من أهمية استراتيجية فقد أوكل إلى محمد بن عبدالمحسن بن علي بعض المهمات العسكرية ذات العلاقة بالمناطق الشمالية من البلاد. وكان من الأعمال التي قام بها غزوه بعض القبائل في العراق، وكذلك مشاركته في التصدي لحملة ثويني بن عبدالله على الأحساء سنة 1211هـ / 1796م  
 
وهكذا توثقت علاقة محمد بن عبدالمحسن بن علي مع حكام الدولة السعودية الأولى، وقام بدور فعال في تنفيذ سياسة الدولة والدفاع عنها حتى سقوطها، فمثلاً قبل أن يذهب الإمام سعود بن عبدالعزيز إلى الحج سنة 1221هـ / 1806م أمر أمراء بعض المناطق بالخروج مع قواتهم للمرابطة قرب المدينة المنورة، ومن بينهم " محمد بن عبدالمحسن بشوكة أهل الجبل، ومن تبعه من شمر وغيرهم"، وذلك لمنع قدوم أمير الحج الشامي؛ "لأن سعودًا خاف من غالب شريف مكة أن يحدث عليه حوادث بسبب دخول الحواج الشامية وأتباعهم مكة"  .  وبعد أربع سنوات من ذلك التاريخ خرج الإمام سعود بن عبدالعزيز لغزو الشام، وكان ضمن من شارك معه أهل الجوف وجبل شمر.
 
وقد لا تسعفنا المصادر بمعرفة كثير عن جوانب التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمنطقة حائل في فترة الحكم السعودي الأول التي استمرت ما يقارب ثلث قرن، ولكن من المؤكد أنها لا تختلف كثيرًا عن غيرها من مناطق الحكم السعودي من حيث تطبيق علامات السيادة؛ مثل: تعيين الأمير، وجباية الزكاة وتحويلها إلى العاصمة، وكذلك الإسهام في الحملات العسكرية. وقد استمرت منطقة حائل، ممثلةً في أميرها محمد بن عبدالمحسن بن علي، على ولائها وصمودها، ففي أثناء الحروب العثمانية - المصرية ضد الدولة السعودية الأولى تصدى الإمام سعود بن عبدالعزيز لفرقة عسكرية في الحناكية وأجبرها على الاستسلام مقابل مغادرتها الجزيرة العربية إلى العراق، وقد أوكل مهمة مرافقة تلك الفرقة إلى أمير حائل. كما أسهم أهل الجبل بقيادة أميرهم مع القوات السعودية في مقاومة الجيوش الأجنبية ومن تحالف معها من قبائل الجزيرة العربية  
 
وعندما تقدم طوسون باشا بجيشه إلى القصيم، كان أهل جبل شمر بقيادة أميرهم محمد بن عبدالمحسن بن علي مع الإمام عبدالله بن سعود في طليعة المدافعين عن الإقليم حتى تم الصلح وعاد طوسون إلى الحجاز. ونظرًا لما قامت به منطقة حائل من دور فعال في التصدي لحملة طوسون باشا، فإن إبراهيم باشا عندما جاء بحملته بعد سنتين ركز اهتمامه على تلك المنطقة وذلك من أجل إضعافها وإشغالها عن تقديم العون للجيش السعودي المرابط في القصيم. فذكرت بعض الوثائق أن إبراهيم باشا بعد خروجه من المدينة في طريقه إلى القصيم توجه من الحناكية على رأس قوة كبيرة إلى منطقة حائل حيث قام ببعض الغارات وحصل على غنائم كثيرة وأخذ بعض الأسرى ثم عاد ليلتحق ببقية جيشه في الحناكية  .  ويبدو أن من بين أهداف تلك الحملة حرص إبراهيم باشا على تأمين خطوط إمداداته ومواصلاته، ولهذا أقام نقطة مراقبة في بلدة الغزالة أو قربها ووضع بها مفرزة من الجند؛ وذلك لمراقبة الطريق الذي يصل منطقة حائل بالحجاز، ولكن أهل البلدة تمكنوا من القضاء عليها ولم يسمحوا لهم بإقامة أي نقطة أخرى  .  واكتفى إبراهيم باشا بما قام به من أعمال عسكرية في منطقة حائل رأى أنها كفيلة بإضعاف جهودها الحربية ومساعداتها لجيش الإمام عبدالله بن سعود.
 
أكمل إبراهيم باشا مهمته وتوج جهوده العسكرية في نجد بسقوط الدرعية واستسلام الإمام عبدالله بن سعود، ثم تفرغ للتعامل مع ما يراه خطرًا يهدد حكمه في الجزيرة العربية. وفي محاولة للقضاء على ما تبقى من مناطق ولاء للحكم السعودي أرسل فرقًا من قواته إلى المناطق النجدية التي لم تخضع له، وقامت بإجراءات عنيفة ضد السكان، وخصوصًا من عرف منهم بتحمسه لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وكما أشرنا سابقًا فإن أمير حائل كان متحمسًا للدعوة والدولة ولذلك قبل أن يرحل إبراهيم باشا من الدرعية أرسل حملة عسكرية لإخضاع منطقة حائل، ولكنها قوبلت بمقاومة عنيفة ولم تتمكن من الأمير محمد بن عبدالمحسن بن علي إلا بالحيلة فاغتالوه مع أخيه علي سنة 1234هـ / 1819م  
 
عندما سمع أمير حائل بقدوم الحملة أخذ يستعد لها وحث أمراء البلدان على التحصن والصمود في وجه الجيش الغازي، وقد حفظت لنا الروايات الشفوية المتوارثة قصة صمود أهل بلدة قفار، تقول القصة: عندما قدم الجيش الغازي إلى بلدة قفار لم يتمكن من دخولها حيث أبدى أهلها مقاومة عنيفة فاضطر للبقاء على بعد ثلاثة كيلومترات من البلدة، وفي أثناء الحصار كان أهل البلدة يتعاونون لبناء السور الشرقي ويقيمون الأبراج الدفاعية ومن بينها برج غيّاض الشهير، وبينما الرجال منهمكون في العمل تسلل أحد جواسيس الحملة " فعرفه أحدهم وصاح هازجًا (عدوا لبن. هاتوا طين. هاتوا حدا الرجاجيل) "  .  وتذهب الرواية إلى ما يشبه الأسطورة موردة أن الجاسوس قد حُمل ووُضع على ظهر الجدار وأكملوا البنيان فوق جثته، ولا تزال آثار عظامه باقية في برج غياض   
 
وعلى الرغم من سقوط الدولة السعودية الأولى ممثلةً في عاصمتها الدرعية، وعلى الرغم من الإجراءات القاسية ضد كل من يقف ضد قوات الاحتلال، إلا أن البلاد لم تستسلم للحكم الأجنبي فأخذت حركات المقاومة تظهر في كل مكان من نجد. وكذلك كانت الحال في منطقة حائل، فبعد اغتيال الأمير محمد بن عبدالمحسن بن علي انتقلت الإمارة إلى أخيه صالح، على أرجح الأقوال، وقد ذكر بعض الباحثين أنها انتقلت إلى أخيه عيسى  .  ومن المؤكد أن الحكم الأجنبي لم يستقر بمنطقة حائل، ولكننا في الوقت نفسه نجهل كثيرًا عن أحوال سكان المنطقة وكيفية تعاملهم مع الواقع الجديد. ولما تتميز به منطقة حائل من استراتيجية موقعها وكرم أهلها ووفائهم واعتزازهم بأنفسهم وكرههم للحكم الأجنبي، فليس من المستغرب أن تكون المقصد الأول للأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز الذي كان أسيرًا في طريقه إلى مصر، ولكنه كما ورد في إحدى الوثائق المصرية تمكن من الفرار من حراسه وتوجه إلى حائل طالبًا العون لإعادة تأسيس الدولة السعودية في الدرعية  .  ولكننا لم نجد ذكرًا لهذا الخبر في المصادر المحلية، إلا أن مجريات الأحداث فيما بعد وإسهام منطقة حائل في إعادة الحكم السعودي لا تجعل هذا أمرًا مستبعدًا.
 
ومما لا شك فيه أن منطقة حائل كانت تبحث عن الخلاص مثل غيرها من مناطق الحكم السعودي السابقة التي تضررت كثيرًا بسقوط الدولة وما أحدثه من فراغ سياسي وعودة الفوضى وانقطاع الأمن. وعندما اشتدت الفوضى في نجد أرسل محمد علي حملة عسكرية بقيادة حسن أبو ظاهر 1237هـ / 1821م قامت بإجراءات عنيفة ضد السكان الثائرين للخلاص من الحكم الأجنبي. فعرج أبو ظاهر بعد ذلك إلى منطقة حائل وطالب السكان بدفع الزكاة التي تعود إلى عدد من السنوات تبدأ منذ عودة إبراهيم باشا إلى مصر، أو كما قال ابن بشر: "فأمسك الحصون واستقر في البلدان، فطلب منهم أولاً الزكاة من رحيل الباشا من نجد إلى يومه، فلما قبضها سار إلى أناس من البوادي فأخذ إبلهم.. إلخ"  .  ولم يفصل ابن بشر كيفية اقتحام الحصون أو ما هي البلدان التي تمكن من دخولها، لكن من الواضح أن حملة أبو ظاهر قامت بجولة على بعض بلدان حائل وباديتها بهدف إخضاعها وجمع المال بطريقة تعسفية. ويبدو أن تلك الإجراءات القاسية أثارت سكان المنطقة ضد حملة أبي ظاهر، فعندما وصلت إلى بلدة موقق   قوبلت بمقاومة عنيفة مما اضطره إلى حصارها ولم يتمكن من دخولها إلا بعد أن قطع نخيلها، وأتلف مزارعها، وقتل من أهلها ثمانين رجلاً، حسب تقارير الوثائق  
 
وبينما كان شمال نجد يقاوم الحكم الأجنبي، شهد جنوبه مقاومة شجاعة بقيادة الأمير تركي بن عبدالله استمرت عدة سنوات واستهدفت في المقام الأول الحاميات المصرية في كل من الرياض ومنفوحة وثرمداء وعنيزة. وفي أواخر عام 1239هـ / 1823م تمكن تركي بن عبدالله من الاستيلاء على منفوحة بعد طرد حاميتها، ثم شدد حصاره على الرياض حتى اضطرت حاميتها إلى مغادرتها  .  وهكذا بعد مقاومة استمرت عدة سنوات توجت جهود الإمام تركي بن عبدالله بخروج آخر الحاميات الأجنبية من نجد ودخوله الرياض عام 1240هـ / 1824م التي اتخذها عاصمة للدولة الجديدة.
 
شارك المقالة:
46 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook