العصر الحديث في منطقة الجوف في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصر الحديث في منطقة الجوف في المملكة العربية السعودية

العصر الحديث في منطقة الجوف في المملكة العربية السعودية.

 
كان الجوف   وحوض وادي السرحان وجنوب بادية الشام خلال فترة صدر الإسلام من منازل قبيلة بني كلب القضاعية الكبيرة، وقد أدت هذه القبيلة دورًا سياسيًا مهمًا خلال فترة الدولة الأموية، لكنها فقدت قوتها وأهميتها وتماسكها خلال الفترة العباسية، وتفرقت في بلاد الشام، وانضوت بعض عشائرها في قبائل أخرى  .  وقد أتاح ضعف قبيلة بني كلب وتفرقها المجال لأقسام مهمة من قبيلة طيئ، جيران بني كلب من الجنوب، للانسياح من ديارهم في جبل طيئ شمالاً إلى الجوف ووادي السرحان وفلسطين وجنوب بلاد الشام، والحلول في ديار بني كلب. وخلال فترة الدولتين: الأيوبية والمملوكية أصبح آل فضل وآل مرا شيوخًا لقبائل طيئ في فلسطين وجنوب بلاد الشام وشمالي جزيرة العرب، وقد اتخذهم السلاطين المماليك أمراء للعرب، ووساطة بينهم وبين قبائل جنوب بلاد الشام وشمالي جزيرة العرب  
 
تزامن انحسار نفوذ آل فضل في جنوب بلاد الشام وشمالي جزيرة العرب مع بروز حلف آخر من عشائر طيئ في شمالي الجزيرة العربية هو حلف بني لام وبني نبهان، ويذكر ابن خلدون (ت 808هـ=1406م) أن أهم عشائر طيئ في ذلك الوقت هم: بنو لام، وبنو نبهان الذين يسيطرون على كل البلاد الواقعة بين المدينة النبوية والعراق  ،  وفي نهاية القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي) بدأ شيوخ بني لام في مهاجمة طريق الحج الشامي والمصري  .  وقد عدد الجزيري الذي كان يشغل وظيفة (كاتب ديوان إمرة الحاج) (ت بعد 976هـ=1569م) المحارس التي كان بنو لام يخرجون منها لمهاجمة قافلة الحج التي تمتد بين حقل وأكرا (على ساحل البحر الأحمر)  
 
وقد تزايدت هجمات بني لام على طريق الحج خلال الربع الأول من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) حتى تمكن شيخ هذه القبيلة سلامة بن فواز المعروف بـ (جغيمان) من إجبار الدولة العثمانية في عام 927هـ / 1521م على تخصيص معلوم يدفع إلى بني لام من السلطنة  
 
أما في بلاد الجوف ووادي السرحان، فقد استقر من قبائل طيئ، آل عمرو الذين أصبحت تلك البلاد تنسب إليهم "جوف آل عمرو" إلى وقت قريب، وقد ذكر هذه النسبة، وذكر سكنى آل عمرو في الجوف، الرحالة ابن فضل الله العمري المتوفَّى عام 749هـ / 1349م، مما يدل على أنهم انتقلوا إلى تلك البلاد واستوطنوها قبل القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)  
 
 العهد العثماني
 
استولت الدولة العثمانية في عام 922هـ / 1516م على بلاد الشام، وفي العام التالي مدت نفوذها إلى مصر والحجاز واليمن، وفي عام 940هـ / 1534م استولى العثمانيون على العراق، ثم مدُّوا نفوذهم في عام 957هـ / 1550م إلى الأحساء وشرقي جزيرة العرب، أما براري شمالي جزيرة العرب وصحاريها فلا يبدو أنها لفتت انتباه العثمانيين، أو استقطبت أطماعهم على الرغم من إحاطة المناطق التابعة لهم بها من ثلاث جهات، فليس هناك أي إشارة في المصادر المتوافرة إلى أي نفوذ للدولة العثمانية في الجوف ووادي السرحان أو ما وراء ذلك من وسط نجد خلال القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) الذي شهد توسع تلك الدولة شرقًا في اتجاه قلب العالم الإسلامي.
 
ظلت أوضاع شمالي جزيرة العرب بشكل عام والجوف ووادي السرحان بشكل خاص خلال هذه الفترة العثمانية المبكرة امتدادًا للأوضاع التي كانت تعيشها هذه المنطقة خلال القرن السابق، فلم تظهر الحكومة المركزية العثمانية اهتمامًا كبيرًا إلا بالأقاليم الساحلية والمناطق ذات الأهمية الدينية والإستراتيجية. كما أن الولاة العثمانيين في بلاد الشام والحجاز والعراق والأحساء لم يملكوا من القوة أو الطموح ما يمكنهم من مد نفوذ دولتهم إلى قبائل شمالي جزيرة العرب وواحاتها ووسطها، بل إن أولئك الولاة كانوا يجدون صعوبة كبيرة في صد هجمات قبائل شمالي جزيرة العرب ووسطها على قرى ولاياتهم وبلدانها أو طرق الحج والتجارة العابرة بين تلك الولايات.
 
لقد فشل العثمانيون - على ما يبدو - في توثيق أو حتى تأسيس علاقة لهم مع القبائل الكبيرة في شمالي جزيرة العرب، وهي السياسة التي نجح فيها أسلافهم المماليك، كما يظهر ذلك جليًا من عبارات ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار)  .  ومما يؤكد ذلك الهجمات التي كانت تقوم بها قبائل بني لام والظفير وعنـزة على طريق الحاج ومناطق الحرمين الشريفين خلال العقود الأولى من الحكم العثماني في الحجاز  .  والواقع أنه ربما كان لبعد مركز الدولة العثمانية عن جزيرة العرب، وضعف ولاتها في المناطق المجاورة للجوف ووادي السرحان، وضعف اهتمامهم بالمناطق الأقل جدوى اقتصاديًا، دور في استمرار تراجع الأهمية الحضارية والتجارية التي كانت تتمتع بها هذه المنطقة خلال فترة الجاهلية وصدر الإسلام.
 
كان أقرب الولايات العثمانية لمنطقة الجوف ووادي السرحان ولاية الشام (سورية)، خصوصًا الألوية الجنوبية التابعة لتلك الولاية، مثل: لواء حوران، ولواء البلقاء، ولواء الكرك أو معان. لكن الجوف ووادي السرحان لم يظهرا ضمن التقسيمات الإدارية لولاية الشام أو الألوية الجنوبية التابعة لها  .  وعلى الرغم من أن منطقة الجوف ووادي السرحان محاطتان بالولايات والمناطق التابعة للدولة العثمانية من ثلاث جهات تمتد من الأحساء والقطيف إلى العراق وبلاد الشام والحجاز إلا أن العثمانيين - على ما يبدو - لم يحرصوا على ربط تلك الولايات بطرق آمنة تمر عبر الجوف ووادي السرحان. وربما يعود ذلك إلى أن هذه المنطقة تحيط بها الصحاري والقفار الواسعة التي تمتد مئات الأميال، وتتجول فيها القبائل البدوية الكبيرة، ما يصعب معه ضمان أمن الطرق، أو سهولة عبورها  
 
أ - الأوضاع القبلية في منطقة الجوف ووادي السرحان:
 
ظلت منطقة الجوف ووادي السرحان مجالاً لتجوال بقايا قبائل شمالي جزيرة العرب القديمة، مثل: بني كلب، وطيئ، وغطفان، وبني أسد، وغيرها، كما أن المنطقة كانت معبرًا للهجرات القبلية الكبيرة من شمالي جزيرة العرب إلى فلسطين والصحراء السورية وغرب الفرات منذ أزمان بعيدة. وكان آخر تلك الهجرات الكبيرة عبر هذه المنطقة هجرة قبائل عنـزة، وقبائل شمر إلى بلاد الشام وغرب الفرات والجزيرة خلال القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي). ومع بداية العصور الحديثة طرأت تغييرات كبيرة على التركيبة القبلية في المنطقة؛ نتيجة للهجرات القبلية من شمالي جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب، وضعف بعض القبائل القديمة، وتشتت بعضها الآخر، فضلاً عن التحالفات التي كان لا بد منها بين بقايا القبائل القديمة، والقبائل المهاجرة إلى المنطقة.
 
كان من أشهر بقايا قبيلة بني كلب القديمة: قبيلة السرحان التي أعطت وادي السرحان اسمها  .  وقد أصبحت قبيلة السرحان من أقوى قبائل حوران خلال القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وتزعمت قبائل جنوب سورية، لكنها لم تلبث أن فقدت تلك المكانة خلال القرن التالي لصالح قبيلة السردية  .  أما في وادي السرحان فلم يبق من هذه القبيلة سوى عشائر قليلة متفرقة، وعدد من الأسر المستقرة في قرى ذلك الوادي وبلدان الجوف  
 
تقدمت الإشارة إلى توطن قبيلة آل عمرو الطائية في منطقة الجوف قبل القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، حتى نسبت المنطقة إليها (جوف آل عمرو). وقد عرفت بقايا قبيلة طيئ التي بقيت في ديارها الأولى "جبل طيئ" بقبيلة شمر، وصارت تلك الديار تعرف بـ (جبل شمر) نسبة إليها. وقد استمرت بعض عشائر شمر في ارتياد واحات الجوف وجنوبي وادي السرحان والمراعي المحيطة بهما، خصوصًا حينما تخصب تلك الواحات والمراعي. كذلك اعتادت بعض العشائر الشمرية التي ترعى أطراف النفود الكبير خلال الشتاء والربيع، التوجه إلى واحات الجوف خلال موسم القيظ، والنـزول حول موارد المياه والقرى لحاجتها إلى الماء والتمور.
 
ومن أكثر القبائل انتشارًا في الجوف ووادي السرحان قبيلة الشرارات التي تمتد مناطق تجوالها من الجوف وحوض وادي السرحان إلى تيماء جنوبًا، وغربًا إلى جبال الشراة ومعان  .  وعلى الرغم من عدم ورود ذكر للشرارات في المصادر القديمة، إلا أن بعض المؤرخين والنسابة يعتقدون أن الشرارات من بقايا قبيلة بني كلب أو غطفان  ،  وربما يؤكد هذا الاعتقاد أن منازل الشرارات خلال القرون المتأخرة هي بعض منازل هاتين القبيلتين القديمتين. ويذكر الرحالة والين (G.Wallin) الذي زار شمالي الجزيرة العربية قبيل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي 1261هـ / 1845م أن قبيلة الشرارات تنـزل معظم السنة في وادي السرحان، وتتوغل أحيانًا إلى النفود الكبير جنوبًا، وإلى جبال الشراة في الغرب، لكن الشرارات يعدون الجوف ووادي السرحان ديارهم الأساسية، ويحرصون على الإقامة بالقرب منها بقدر ما يستطيعون، خصوصًا في أوقات صرام النخل عندما يأتون بأعداد كبيرة لمبادلة منتجاتهم بالتمر والقماش وغيرها من سلع البلدان  
 
كان من أهم القبائل التي ترتاد الجوف ووادي السرحان قبيلة الرولة من عنـزة.
 
وكانت المواطن الأولى لقبائل عنـزة في شمال شرقي الحجاز حول واحات خيبر وتيماء، ثم أخذت تلك القبائل خلال القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) في الهجرة شمالاً إلى جنوب سورية وبراري بادية الشام  .  وكانت قبائل عنـزة تسير في هجرتها شمالاً عبر الجوف ووادي السرحان، وكان آخر من هاجر من تلك القبائل من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام قبيلة الرولة التي بدأت تزحف شمالاً في بداية القرن الثالث عشر الهجري (نهاية القرن الثامن عشر الميلادي)  ،  ولأن الرولة هاجروا متأخرين إلى جنوب بلاد الشام فقد اصطدموا بمن سبقهم من قبائل عنـزة خصوصًا قبيلة ولد علي التي كانت تسيطر على أقاليم حوران والبلقاء، وترفض أن تشاركها الرولة في مراعي تلك الأقاليم، ولذلك دخلت قبيلة الرولة في حروب كثيرة مع قبيلة ولد علي وبني صخر وغيرها من قبائل عنـزة طوال القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، وخلال هذه الفترة كان الرولة يتردَّدون بين جنوبي بلاد الشام ومنطقة الجوف وشمالي نجد  
 
وبعد أن تمكن الرولة من شق طريقهم والنفوذ إلى حوران والجولان ومراعي وسط سورية في نهاية القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) وبداية القرن التالي، استمرت بعض عشائر الرولة في التردد إلى الجوف ووادي السرحان وشمالي جزيرة العرب، خصوصًا عندما تخصب تلك المناطق خلال فصلي الشتاء والربيع، وقد لاحظ ذلك الرحالة والين الذي زار وادي السرحان والجوف في عام 1261هـ / 1845م  .  كما لاحظ كل من الليدي آن بلنت والبارون ادوارد نولدة اللذين زارا شمالي جزيرة العرب في عامي 1295 و 1310هـ / 1878 و 1893م على التوالي وجود تجمعات كثيرة وكبيرة من الرولة في وادي السرحان والجوف والنفود الكبير  
 
ب - السكان المستقرون في منطقة الجوف ووادي السرحان:
 
تدل الآثار القديمة الموجودة في بلدان الجوف وقراها وشمال وادي السرحان (القريات)   على نمو حياة الاستقرار والتحضر وازدهارها في هذه المنطقة من شمالي جزيرة العرب خلال فترة ما قبل الإسلام، وقد نتج من ذلك: حرمان شمالي جزيرة العرب من ظهور أي دولة، أو كيان سياسي، أو إمارة تعتمد على السكان الحضر بعد فترة صدر الإسلام، وعدم اهتمام الدول والحكومات التي سيطرت على الأقاليم المجاورة لها، ضعف السكان المستقرين، وانكماش بلدانهم وقراهم أو اختفاؤها، وزاد من سوء أوضاع الحضر في هذه المناطقُ فشُوُّ البداوة، وانتشار القبائل الرحل، وسيطرتها على البراري، والقرى، والواحات، والبلدان والطرق الواصلة بينها.
 
ولكن على الرغم من هذه الظروف الصعبة استمرت حياة الاستقرار في واحات الجوف وشمالي وادي السرحان (القريات) تصارع المصاعب الكثيرة التي تواجه السكان المستقرين. وكان من أهم بلدان واحة الجوف وقراها: دومة الجندل، وسكاكا، وقارا، والطوير. أما أهم قرى شمال الوادي فهي: كاف، وإثرة، وقراقر ومنوة، بالإضافة إلى عدد آخر من القرى التي كانت تظهر وتختفي مع مرور الزمن حسب الظروف المناخية والحركة السكانية  .  وينتسب أغلب سكان هذه البلدان والقرى إلى القبائل التي استوطنت الوادي، أو تجولت فيه عبر القرون الماضية، وبخاصة تلك التي تمت الإشارة إليها فيما سبق، كما أن بعض هؤلاء السكان مهاجرون إلى المنطقة من وسط نجد أو من العراق أو من الشام.
 
ويشير آل كريع الذي ينقل روايات السلف المتوارثة عن المسنين وأهل المعرفة من أهل منطقة الجوف أن عشيرة السراح كانت تشكل في الماضي أكثرية سكان دومة الجندل، وأنه كانت لها السلطة الكاملة على البلدة، وأن حاكم البلدة كان منها، وكانت له السيطرة الكاملة على منطقة الجوف، وأن السراح كانوا يتزعمون تحالفًا كبيرًا من قبائل منطقة الجوف في دومة الجندل وسكاكا وقارة. ويضيف آل كريع أن السراح كانوا حلفاء لآل فضل شيوخ عرب الشام وشمالي جزيرة العرب، وأنه لما أفل نجم آل فضل تحالف السراح مع قبائل عنـزة التي حلت محل قبائل طيئ وزعماء آل فضل في الهيمنة على براري شمالي جزيرة العرب  
 
استمرت بلدة دومة الجندل التي أصبحت تعرف بالجوف خلال العصور الحديثة حاضرة لمنطقة الجوف ونقطة الاستقرار الرئيسة فيها. وقد وصفها الرحالة والين الذي أقام فيها نحو أربعة أشهر وصفًا دقيقًا، حيث وصف أحياءها، وأسواقها، ومزارعها وأهم معالمها، فقال: إن بلدة الجوف تتكون من اثني عشر حيًا منفصلاً يحيط بكل حي منها سور خاص به، وإن أهم تلك الأحياء وأكبرها، هما: حي الدرع، وحي السراح، أما بقية الأحياء فهي أقل أهمية وسكانًا، وأغلبها متحالف مع أحد الحيين الرئيسين. وقد ذكر والين أن تلك الأحياء تتوزع حول المعلمين الرئيسين في البلدة، وهما: قلعة مارد،  ومسجد عمر بن الخطاب، كما قدر عدد الأسر التي تسكن كل حي، وذكر أصولها القبلية، والمناطق التي جاءت منها  
أما قرى سكاكا وقارة والطوير فقد كانت في ذلك الوقت أصغر بكثير من بلدة الجوف، وأقل سكانًا وأهمية  
 
يلاحظ أن كثيرًا من سكان القرى الشمالية (القريات) كانوا مهاجرين إليها من واحة الجوف  ،  ويظهر أن غالبية تلك القرى قد خربت خلال العصور الإسلامية الوسيطة، ثم أخذ العمران يعود إلى بعضها خلال العصور الحديثة. وأبرز دليل على ذلك ما تشير إليه الروايات المحلية عن عمران أهم بلدتين من بلدان قريات الملح وهما: كاف وإثرة. لقد ذكر الشيخ عبدالله الخميس شيخ بلدة كاف الذي كان في الخمسين من عمره في ذلك الوقت للرحالة الفرنسي هوبر (C.Huber) الذي زار البلدة في عام 1296هـ / 1879م أن أباه دهيري الخميس هو أول من سكن بلدة كاف منذ خمسين سنة   ،  وهذا يجعل نشأة بلدة كاف في بداية القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي). أما الرحالة الإيطالي كارلو غورماني (C. Guarmani) الذي قابل الشيخ دهيري الخميس وتعامل معه في عام 1281هـ / 1864م فقد ذكر أن بلدة كاف أعيد عمرانها خلال القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري)  
 
أما بلدة إثرة فتذكر الرواية المحلية أن الذين عمروها هم آل مذهن الذين قدموا إلى قريات الملح من الجوف. وقد وجد آل مذهن القصر النبطي القديم    الموجود في البلدة خرابًا، فحفروا عن أساساته وبنوا ما تهدم منه وسكنوه، ثم قاموا بحفر الآبار حول القصر، وجلبوا فسائل النخل من الجوف - بلدهم القديم - وغرسوا البساتين حول القصر الذي عرف بعد ذلك بقصر المذهن. وكان ذلك نحو منتصف القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)  ،  وقد أعجبت الليدي آن بلنت التي زارت إثرة وحظيت بضيافة جروان المذهن وأمه مرزوقة في عام 1295هـ / 1878م ببستان آل مذهن الذي كان يحوي نحو أربعمئة نخلة لا تتجاوز أعمارها 25 سنة، وغيرها من أشجار الفاكهة  .  وقد تمكن آل مذهن من الدفاع عن أنفسهم ونخيلهم وقريتهم ضد القبائل الرحل، والرشيد والشعلان بمساعدة القصر النبطي القديم الذي كانوا يتحصَّنُون به ضد الأعداء  
 
يشتغل السكان المستقرون في قرى منطقة الجوف وبلدانها بزراعة النخيل، والأشجار المثمرة الأخرى والحبوب والخضراوات، كما يشتغل بعضهم في حرف نسج العباءات، والبسط، والحصر، والنجارة، والحدادة  .  ويفخر أهل الجوف بجودة تمورهم (حلوة الجوف) التي امتدحها أغلب من زار المنطقة، خصوصًا الرحالة الأجانب  .  وقرى القسم الشمالي من منطقة الجوف (القريات) أصغر حجمًا، وأقل سكانًا من قرى جنوب المنطقة، كما أن الزراعة في هذه المنطقة أضعف بسبب انتشار السباخ والممالح فيها، ولذلك يمثل النخيل وقليل من أشجار الفاكهة والخضراوات عماد الزراعة في القريات   .  لكن أهل القريات يعوضون فقرهم في الزراعة، باستخراج الملح من الممالح المجاورة لبلدتي كاف وإثرة، وتصديره إلى حوران وجنوب سورية، ومقايضة أحمال الملح بما يحتاجونه من الحبوب والمواد الضرورية الأخرى  
إن أهم الصعوبات التي كان يواجهها السكان المستقرون في منطقة الجوف ووادي السرحان التي كانت تحد من نمو بلدانهم وقراهم وازدهارها هي: مشكلة الخوف على أرواحهم وأموالهم. فقد كانت المنطقة منذ قرون عدة مجالاً لتجوال القبائل الرحل المهاجرة والمستوطنة وعبورها، وكان شيوخ هذه القبائل الرحل يهددون سكان البلدان والقرى من الحضر  ،  وكانت بعض البلدان والقرى تضطر إلى دفع الإتاوة إلى أكثر من شيخ قبيلة واحد، لكي تضمن عدم تعدي قبائلهم على سكانها وأموالها  .  وقد زاد الطين بلة، عدم تمكن الحضر في الجوف أو القريات من تكوين إمارة شاملة أو حكومة مركزية تدفع عنهم هجمات القبائل الرحل وفرضهم الإتاوات على القرى، أو تفض الخصومات والحروب التي كثيرًا ما كانت تثور بين أهل تلك القرى أنفسهم  
 
لم يكن السكان الحضر في منطقة الجوف أقل قبلية من جيرانهم الرحل، حيث كان يتوزع سكان كل واحة أو بلدة، وبخاصة دومة الجندل وسكاكا إلى عدد من العشائر والأسر التي كانت تتكتَّل في تحالفات دفاعية رئيسة وفرعية  .  وكانت هذه التحالفات الدفاعية موجهة بعضها ضد بعض من ناحية، وضد الهجمات الخارجية من ناحية أخرى، كما كانت هذه الأحلاف الحضرية تدخل في تحالفات مع القبائل الرحل والقوى التي تسعى إلى الهيمنة على المنطقة   وكان من الطبيعي أن تتطور وتطول - في ظل هذه التكتلات والتحالفات - الصراعات والحروب المحلية؛ بسبب التنافس على السلطة والنفوذ وعلى الموارد الطبيعية المحلية كالأراضي والمياه.
 
لم تكن العلاقات بين الحضر والبدو في الجوف والقريات سيئة دائمًا، فقسم من الحضر كانوا في الأصل من الرحل، ثم استقروا في البلدان والقرى وامتهنوا الزراعة وحافظوا على علاقة طيبة مع عشيرتهم من البدو. كما أن الخاوة أو (الإتاوة) التي يدفعها أهل البلدان والقرى إلى بعض شيوخ القبائل الرحل توثق العلاقة بين الطرفين، وتسهم في حماية القرية من تعديات القبائل الأخرى. كذلك فإن كلاً من الحضر والبدو يحتاجون إلى منتجات الطرف الآخر، ففي موسم صرام التمر عندما يقل الكلأ والماء في الصحراء ينـزل البدو حول البلدان والقرى، ويشترون ما يحتاجون إليه من التمر، والقماش، والحصر، والخيام، والعباءات وغيرها، ويبيعون منتوجاتهم من الصوف، والسمن، والزبد، والحيوانات لأهل القرى  
 
عهد الدولة السعودية الأولى
 
كان عام 1157هـ / 1744م نقطة تحول مهمة في تاريخ الجزيرة العربية عندما اتفق الأمير محمد بن سعود، أمير الدرعية في العارض، والشيخ محمد بن عبدالوهاب صاحب الدعوة الإصلاحية السلفية على نشر تلك الدعوة التي ترتب على انتشارها قيام أول كيان سياسي شامل، ودولة مركزية في وسط جزيرة العرب منذ صدر الإسلام هي الدولة السعودية الأولى، وقد تمكنت تلك الدولة مع نهاية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) من توحيد أغلب مناطق نجد، وفي بداية القرن التالي أخذت الدولة السعودية تمد نفوذها إلى الأحساء شرقًا والجوف ووادي السرحان شمالاً.
 
فبعد أن فرض الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود نفوذ الدولة السعودية على منطقتي القصيم وجبل شمر أصدر أوامره إلى أهل هاتين المنطقتين وأهل الوشم للقيام بحملة إلى دومة الجندل في (جوف آل عمرو) شمالي جزيرة العرب، وقد قاد الجيوش السعودية محمد بن معيقل أمير الوشم الذي تمكن من الاستيلاء على ثلاث من بلدان الجوف، وفرض الحصار على البلدان الأخرى، حتى تم الاستيلاء عليها، وإخضاعها لنفوذ الدولة في عام 1208هـ / 1794م  .  ويذكر ابن غنام (ت 1225هـ=1810م) أن أهل قرية بني سراح قاوموا القوات السعودية، وأن آل درع كانوا محاربين لبني سراح، وأن محمد بن معيقل أعطى جزءًا من الغنائم التي حصل عليها إلى آل درع   مما يدل على أن هذين الأخيرين قد تعاونا مع القوات السعودية في إخضاع القرى الأخرى  
 
يذكر ابن بشر أنه في عام 1212هـ / 1797م، قام حجيلان بن حمد أمير القصيم بقيادة جيش من أهل القصيم وغيرهم وأغار على عربان الشرارات في الشام فهزمهم، وقتل منهم نحو مئة وعشرين رجلاً، وغنم مقادير كبيرة من الأمتعة والأغنام، ومن الإبل خمسة آلاف بعير  .  ويظهر أن هذه الحملة كانت موجهة إلى قبيلة الشرارات في وادي السرحان؛ لأن هذا الوادي هو ديارهم الأساسية - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - ولأن المقصود بـ (الشام) في عرف أهل الجزيرة العربية هو كل ما يقع في الشمال. كما يظهر أن الدولة السعودية بعد أن ثبت نفوذها في الجوف أرادت أن تمد ذلك النفوذ إلى وسط وادي السرحان وشمالي بما في ذلك القريات.
 
أشار الرحالة والين الذي زار الجوف في عام 1261هـ / 1845م إلى أن قائد القوات السعودية التي استولت على الجوف، فرض الزكاة الشرعية على السكان، وأرسل فرقًا من قواته لإخضاع مناطق أخرى، كما عين في الواحة نائبًا يحكمها من قبل الإمام السعودي  .  ويبدو أن هذا النائب قد اختير من زعماء أهل حي الدرع الذين تعاونوا مع القوات السعودية للاستيلاء على المنطقة، كما هي سياسة الدولة السعودية في المناطق الأخرى. كما أشار والين أيضًا إلى أن السعوديين هدموا قبرًا قديمًا في حي الدرع كانت تقام عليه قبة، ويعظمه السكان الذين كانوا يعتقدون أنه ضريح لذي القرنين، كما تم إرسال عدد من المعلمين والأئمة والخطباء الذين درسوا في المدينة المنورة والدرعية، لتعليم الناس أمور دينهم، خالية من البدع حسب مبادئ الدعوة الإصلاحية التي جاء بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب. كما ذكر ذلك الرحالة أن الحاكم السعودي قام بترميم المسجد المنسوب إلى الخليفة عمر بن الخطاب،  الواقع في حي آل درع، وأضاف والين أن الحروب والخصومات قد انقطعت بعد ذلك، وشاع العدل والأمن العام في كل البلاد التابعة للسعوديين، وما زال الناس يتذكرون تلك الأيام بحماس شديد  
 
في عام 1225هـ / 1810م، قام الإمام سعود بن عبدالعزيز بحملة قوية ضد قبائل جنوب بلاد الشام ومناطقها، وقد أورد ابن بشر تفاصيل هذه الحملة، فذكر أن الإمام سعود استنفر المقاتلين من رعاياه وخرج من الدرعية في الثالث من ربيع الآخر 1225هـ / 9 مايو 1810م قاصدًا نقرة الشام المعروفة، بـ (حوران)؛ لأنه بلغه أن بوادي الشام وعربانه من عنـزة وبني صخر وغيرهم فيها، فلما وصل إلى هناك لم يجد أحدًا؛ لأن النذير سبقه إليهم، وقد اجتمعت تلك القبائل على دوخي بن سمير رئيس ولد علي من عنـزة الذي انهزم بهم إلى الغور من حوران، فسار سعود في تلك الناحية، واجتاز القرى التي حول المزيريب، وكان أهلها قد هربوا منها لما سمعوا بمسيره، ثم ورد عين البجة، ثم أقبل على قصر المزيريب، وحصل بينه وبين أهل القصر طراد خيل لكن سعود لم يرغب في الهجوم عليه حقنًا لدماء المسلمين، ثم رحل إلى بصرى ونـزل فيها، ثم رجع إلى وطنه ومعه غنائم كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام، وحصل في الشام رجفة ورهب عظيم بهذه الغزوة، في دمشق وغيرها من بلدانه وجميع بواديه، وحين قفل سعود جاء العزل ليوسف باشا الشام  
 
لم يوضح ابن بشر دوافع هذه الحملة السعودية العميقة في بلاد الشام لكن يبدو أن الإمام سعود هدف إلى فرض نفوذه على قبائل جنوب بلاد الشام، مثل: بني صخر، وولد علي، والرولة، وغيرهم من عنـزة من ناحية، وتشديد الضغط على ولاة الشام العثمانيين من ناحية أخرى. كذلك فإن هذه القوات السعودية الكبيرة كان طريقها الجوف ووادي السرحان والقريات في الذهاب والعودة، مما ترتب عليه ثبات النفوذ السعودي على قبائل المنطقة وبلدانها وقراها، ويؤكد ذلك ابن بشر عندما يتحدث عن الأمن الذي ساد في جميع المناطق التي خضعت للإمام عبدالعزيز وابنه الإمام سعود؛ بما في ذلك نقرة الشام (حوران) وبوادي الشام  ،  وعندما يعدد الزكوات التي ترد إلى الدرعية، ومنها: زكوات بوادي عنـزة أهل الشام، وبوادي خيبر وزكوات الفدعان المعروفين من بوادي عنـزة  ،  وقد تقدمت الإشارة إلى أن قبائل عنـزة الكبيرة، مثل: الفدعان، وولد علي، والرولة كانت تنـزل في ذلك الوقت في حوران، والحماد، والشنبل، ويصلون في تجوالهم خلال الصيف إلى شرق حمص وحلب، ويتردد بعضهم بين حوران والجوف ووادي السرحان، مثل: الرولة  
 
لقد ذكر ابن بشر ضمن تعداده لأمراء الإمام سعود بن عبدالعزيز المتوفى عام 1229هـ / 1814م وقضاته أن محمد بن عبدالمحسن بن علي كان أميرًا من قبل ذلك الإمام على جبل شمر والجوف، وأن عبدالله بن سليمان بن عبيد كان قاضيًا له على جبل شمر وما يليه، في حين قَصرت إمارة ذلك الأمير على جبل شمر فقط، خلال عهد الإمام عبدالله بن سعود  ،  ويروي آل كريع عن المسنين من أهل الجوف أن قاضي حائل كان يحضر إلى الجوف مدة شهرين للحكم، ثم يعود  .  ويمكن أن يستنتج من هذا أن نفوذ الدولة السعودية الذي امتد إلى الجوف ووادي السرحان في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد قد ثبت وقَوِيَ في عهد ابنه الإمام سعود، كما يمكن أن يستنتج أن منطقة الجوف ووادي السرحان كانتا تداران من قبل أمير جبل شمر.
 
شارك المقالة:
354 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook