العصر الحديث بمنطقة نجران في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصر الحديث بمنطقة نجران في المملكة العربية السعودية

العصر الحديث بمنطقة نجران في المملكة العربية السعودية.

 
العهد العثماني الأول 945 - 1043هـ / 1538 - 1635م
 
حتى مطلع العصر الحديث ظلت نجران تحتفظ بطابعها السائد خلال العصور الإسلامية بوصفها منطقة داخلية لها حدودها الجغرافية التي تكاد تكون ثابتة، ولها تركيبتها الاجتماعية التي تعتمد على النظام القبلي السائد في مجتمع شبه الجزيرة العربية آنذاك. ويسكن نجران عدد من القبائل من أهمها: يام وبنو الحارث، ونهد، وبعض عشائر زبيد، ولكن يام تعد القبيلة الأكثر عددًا في منطقة نجران، فما تكاد تذكر نجران إلا وتأتي يام في مقدمة التركيبة السكانية لتلك المنطقة  
 
وخلال القرن العاشر للهجرة / الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين حدثت مستجدات عالمية تركت آثارها على الوضع السياسي في شبه الجزيرة العربية، وقد تمثلت تلك التغيرات في حركة الكشوف الجغرافية وفي وصول البرتغاليين خصوصًا إلى بحر العرب والبحر الأحمر وتهديدهم الأمكنة المقدسة. في تلك الأثناء ظهرت الدولة العثمانية بوصفها قوة عالمية في شمال البحر الأبيض المتوسط، وحققت عددًا من النجاحات في أوروبا، وبذلك لم تكن هذه الدولة بمعزل عن الأحداث التي تجري في بحر العرب والبحر الأحمر، وظهور البرتغاليين الذين هددوا فعليًا الأمكنة المقدسة، وقررت الدولة العثمانية أن تتعاون مع المماليك الذين كانوا يحكمون مصر، وكان لهم نفوذهم في شبه الجزيرة العربية خصوصًا في أطرافها الغربية والجنوبية. ولأن المماليك لم يحققوا نجاحات تُرضي الدولة العثمانية في إيقاف التغلغل البرتغالي؛ لذلك قررت الدولة العثمانية القيام بتلك المهمة بنفسها خصوصًا عندما أخذ التقارب العثماني المملوكي يضعف؛ نظرًا لشكوك الدولة العثمانية في صداقة المماليك الذين حدث بينهم وبين الدولة الصفوية التي كانت على خلاف مع الدولة العثمانية تقارب. هذه الأسباب كانت كفيلة بأن تجعل الدولة العثمانية تقرر التحول إلى المشرق العربي؛ بهدف حماية الأمكنة المقدسة من البرتغاليين، وإيقاف الطموحات الصفوية في العراق وشبه الجزيرة العربية  
 
قرر السلطان العثماني سليم الأول التوجه بنفسه على رأس جيش إلى المشرق العربي؛ ليقوم بمهمة الدفاع عن الأمكنة المقدسة من خطر البرتغاليين في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ومع أن أصدقاء الأمس المماليك لم يكونوا راضين عن التحركات العثمانية فقد قرر قانصوه الغوري مقابلة السلطان سليم في الشام، وحاول الحاكم المملوكي ثني السلطان العثماني عن عزمه، ولكن تلك المساعي لم يُكتب لها النجاح. ونتيجة لذلك دخل الطرفان في حرب استطاع الجيش العثماني أن يكسبها في مرج دابق في عام 922هـ / 1516م، ومن ثَمَّ اضطر الجيش المملوكي إلى الانسحاب إلى مصر حيث تلقى هزيمة قاسية في الريدانية عام 923هـ / 1517م وعلى أثر ذلك سقطت دولة المماليك وأصبح العثمانيون يسيطرون على مصر، وكان لا بد للمنتصرين أن يقوموا بمهمة الدفاع عن الأمكنة المقدسة بأنفسهم، بل وطرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر الجنوبية وسواحل بحر العرب التي تعد خط الدفاع الأول عن الأمكنة المقدسة  
 
وبعد سقوط دولة المماليك في مصر لم يتردد حاكم الحجاز وإمام اليمن في إرسال الوفود مع بقية وفود المناطق التي كانت تابعة للدولة المملوكية إلى مصر. فلقد أرسل الشريف بركات ابنه أبا نمي حاملاً مفاتيح الكعبة إلى السلطان العثماني دلالة على ولائه للدولة العثمانية، وكذلك أرسل إمام اليمن المتوكل يحيى شرف الدين وفدًا إلى السلطان العثماني يهنئه بالنصر، ويطلب منه الحماية من الخطر البرتغالي الذي يهدد السواحل اليمنية والأمكنة المقدسة في الحجاز خصوصًا أن البرتغاليين ما زالوا يتوعدون باحتلال الأمكنة المقدسة، ويستأثرون بالتجارة الشرقية بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح. وقابل السلطان العثماني تلك الوفود التي أُرسلت إليه بالترحاب، ووعد بالعمل معًا ضد التهديدات البرتغالية؛ وبخاصة بعد نجاح البرتغاليين في الوصول إلى البحر الأحمر بأساطيلهم في ظل عدم تمكن المماليك في الحجاز أو في اليمن من إيقاف تلك التهديدات. وبعد سقوط دولة المماليك في مصر كان من أولويات أعمال السلطان سليم إرسال وفد عثماني إلى الحجاز واليمن طالبًا من قادة المماليك التسليم بتبعيتهم للحكم العثماني، وعندما وصل وفد السلطان إلى اليمن طالب الولاة بإعلان الطاعة للعثمانيين فاستجاب بعض اليمنيين له ورفض بعضهم الآخر؛ مما جعل الدولة العثمانية تحاول الإبقاء على الوضع لفترة زمنية تجاوزت عقدين من الزمن، ويبدو أن الدولة العثمانية حاولت فيما بعد تعيين ولاة تستطيع من خلالهم ضمان تبعية اليمن لها ولكن تلك السياسة لم تمكن الدولة العثمانية من تحقيق أهدافها بتثبيت الأمن في المنطقة  
 
ومع أن الدولة العثمانية نجحت في القضاء على بعض الكيانات السياسية، مثل: الدولة الطاهرية وتعاملت بدهاء في إقناع بعض زعماء المماليك بالانضمام إليها، واستخدمت القوة في القضاء على بقية المعارضين من زعماء المماليك، إلا أن المعارضة الحقيقية التي وقفت ضد الوجود العثماني في اليمن تمثلت في موقف الإمام شرف الدين وأبنائه الذين رفضوا الوجود العثماني في اليمن. ففي الفترة التي تلت سقوط دولة المماليك في مصر سنة 923 - 945هـ / 1517 - 1538م حاول العثمانيون استمالة الكيانات السياسية في اليمن كالدولة الطاهرية (في عدن)، وزعماء المماليك، والزيديين، وكانت تلك السياسة ناجحة إلى حد بعيد؛ بسبب تبني العثمانيين فكرة الدفاع عن البلاد الإسلامية. وكان زعماء تلك الكيانات السياسية يرون أن العثمانيين قدموا إلى اليمن لهدف واحد هو وقف التهديد البرتغالي لجنوب غربي شبه الجزيرة العربية التي تعد خط الدفاع الأول للأمكنة المقدسة. وخلال العقدين اللذين تليا سقوط دولة المماليك في مصر حدثت تطورات على جانب كبير من الأهمية، إذ إن العثمانيين حققوا انتصارات كبيرة على الإسبان والبرتغاليين في البحر الأبيض المتوسط؛ مما أدى إلى انحسار خطرهم عن شواطئ ذلك البحر، وعن البحار الشرقية المجاورة لليمن. أما التطور الآخر فهو ضعف ولاء زعماء الكيانات السياسية في اليمن للدولة العثمانية، خصوصًا عندما أخذ الوجود البحري للأسطول البرتغالي ينحسر في البحر الأحمر وبحر العرب ونتيجة لذلك ظهر العصيان بين زعماء المماليك الذين أصبحوا لا يأتمرون بأوامر القادة العثمانيين، بل وضعف الحماس عند زعماء الدولة الطاهرية والأئمة في صنعاء بالتعاون مع الدولة العثمانية الذين صاروا يتوجسون خيفة من نوايا العثمانيين في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية  
 
تلك التطورات جعلت الدولة العثمانية تقرر إرسال حملة إلى جنوب غربي شبه الجزيرة العربية بقيادة سليمان باشا الخادم حيث غادرت تلك الحملة مصر من ميناء السويس في 29 محرم 945هـ الموافق 27 يونيو 1538م، وكان الهدف المعلن من الحملة المذكورة هو القضاء على البرتغاليين في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية، ولكن في حقيقة الأمر كان الهدف منها هو السيطرة على تلك المنطقة، خصوصًا في ظل المعارضة المحلية للتوجهات العثمانية الجديدة التي كانت تتجه إلى القضاء على الكيانات السياسية في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية، وفي ظل التنافس بين حاكم الدولة الطاهرية، وبين الإمام الزيدي الذي أخذ يتوسع على حساب الدولة الطاهرية في جنوبي اليمن. وإلى جانب هذا السبب هناك سبب آخر لا يقل عنه أهمية ألا وهو ضعف الولاء عند بعض اليمنيين للعثمانيين، فعلى الرغم من أن العثمانيين قوبلوا بالقبول في اليمن في بداية الأمر خصوصًا عندما رفعوا راية الجهاد ضد البرتغاليين إلا أن ذلك القبول تحول إلى رفض؛ بسبب السياسة العثمانية التي تؤكد أن المناطق التي كانت تحت السيطرة المملوكية يجب أن تؤول إلى الحكم العثماني. وعندما وصلت الحملة العثمانية إلى عدن استطاع قائدها أن يقضي على عامر بن داود الطاهري بدلاً من تقديم المساعدة للطاهري الذي كان قد طلب من السلطان العثماني مساعدته ضد شرف الدين الإمام الزيدي. ولقد قُضي على الطاهري بخدعة من قائد الأسطول العثماني؛ حيث استدعاه إلى ظهر السفينة وقام بقتله. ومن ثَمَّ استطاع سليمان باشا السيطرة على معظم الموانئ الواقعة في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية بعد استسلام النوخذة أحمد أحد القادة المماليك هناك، وبذلك دخلت معظم المناطق اليمنية تحت الحكم العثماني مع بعض الاستثناءات للمناطق التي كان يسيطر عليها الإمام الزيدي  
 
ومع أن طبيعة السياسة العثمانية في حكم البلاد العربية كانت تقضي ببسط نفوذها على السواحل، وترك الأمور الداخلية لأهالي البلاد، إلا أن الوضع في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية كان على النقيض من ذلك، والسبب في ذلك يعود إلى سوء الإدارة العثمانية السياسية والطريقة التي تعامل بها بعض القواد العثمانيين مثلما فعل سليمان باشا بعامر بن داود الطاهري الذي تخلص منه بحيلة جعلت الناس لا يثقون بالدولة العثمانية، بل إن بعضهم قرر عدم التعاون مع العثمانيين. فالمناطق الداخلية القريبة من عدن التي كانت تابعة للدولة الطاهرية ثارت على الحامية العثمانية في عدن؛ مما اضطر الدولة العثمانية إلى أن ترسل حملة أخرى بقيادة بيري باشا حيث استطاع السيطرة على عدن وقمع تلك الثورة  
 
أما عن موقف الإمام شرف الدين من الحكم العثماني فقد عارض السياسة العثمانية القاضية بالتوسع في المناطق التابعة له، وعندما تقدم الجيش العثماني إلى المناطق الداخلية لليمن حارب الأئمة الزيديون الحملات العثمانية المرسلة إلى اليمن، ولكن حملة حسن بهلوان المرسلة في عام 954هـ / 1547م نجحت في بسط سيطرتها على بعض المناطق التابعة للزيديين، بل إنها تقدمت إلى تعز وسيطرت عليها في عام 954هـ / 1547م، ونظرًا لوجود مقاومة عنيفة من الزيديين، فقد قررت الدولة العثمانية إضعاف الجبهة الداخلية لليمن واستخدمت سياسة "فرِّق تَسُد" بين الإمام شرف الدين وابنه المطهر الذي تمرد على أبيه ووجد دعمًا من الدولة العثمانية التي كانت تسعى إلى السيطرة على البلاد، فما كان من شرف الدين إلا أن تنازل عن الحكم لابنه في سبيل توحيد الجبهة الداخلية لبلاده، ورغم ذلك نجحت القوات العثمانية في السيطرة على معظم المدن الواقعة في جنوبي اليمن وشماليه ودخلت صنعاء في العام نفسه الذي استولت فيه على تعز. ونتيجة لذلك اضطر الإمام المطهر إلى عقد صلح مع القائد العثماني آنذاك ازدمر باشا في عام 955هـ / 1548م، وبذلك أصبحت معظم المناطق اليمنية تابعة للدولة العثمانية   ومع أن المجابهات بين العثمانيين وبين الأئمة الزيديين وقفت عند هذا الحد إلا أن الدولة العثمانية بسطت هيبتها على المناطق الواقعة في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية؛ ومن بينها المناطق التي كانت تابعة، ولو تبعية اسمية، للوحدات السياسية المهيمنة على الحكم قبل الوجود العثماني.
 
وبذلك الانتصار الذي حققه الجيش العثماني استطاعت الدولة العثمانية بسط نفوذها فعليًا على معظم أنحاء جنوبي شبه الجزيرة العربية؛ بما فيها بعض المناطق الداخلية التي كانت تشكل خطرًا على الوجود العثماني في السواحل، أما المناطق الداخلية البعيدة بعض الشيء عن السواحل، مثل: نجران، فلم تعطها الدولة العثمانية اهتمامًا كبيرًا. ومع ذلك كانت نجران واحدة من تلك المناطق التي دانت بالولاء الاسمي للدولة العثمانية مع الاحتفاظ بالاستقلالية الذاتية للقبائل النجرانية التي كانت تسيطر على المنطقة آنذاك ومنها قبيلة يام التي كانت القبيلة الأقوى وذات النفوذ في المنطقة. وخلال الحكم العثماني الأول الذي استمر من عام 945هـ / 1538م حتى عام 1043هـ / 1635م ظلت نجران بعيدة عن الحكم العثماني المباشر، وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية حاولت أن تبسط نفوذها على المناطق الواقعة إلى الشمال من صنعاء إلا أن هناك عدة أسباب حدّت من تلك الطموحات. ومن أهم تلك الأسباب المعارضة الزيدية التي أخذت تنشط بعد احتلال صنعاء حيث نجح الأئمة الزيديون في العودة إلى صنعاء عام 975هـ / 1568م مظهرين قوتهم أمام العثمانيين، إضافة إلى وعورة المناطق الجبلية التي جعلت العثمانيين يتوقفون عند دخولهم صنعاء ثم يتقدمون إلى المناطق الداخلية؛ ومن بينها نجران. ومن الأسباب أيضًا اكتفاء العثمانيين بالمناطق التي سيطروا عليها، والتخلي عن فكرة إرسال حملات إلى منطقة نجران؛ لأن ذلك سوف يكلف الخزينة العثمانية كثيرًا، بل إن تثبيت الأمن في تلك المناطق الداخلية يتطلب كثيرًا من المال  
 
وخلال الحكم العثماني لجنوب غربي شبه الجزيرة العربية نجد أن ذلك الحكم اقتصر في معظم الفترات على المناطق الساحلية، وعلى بعض المناطق الداخلية التي كانت فيها المقاومة نشطة ضد العثمانيين. أما المناطق البعيدة عن الساحل فقد ظلت بعيدة عن النفوذ العثماني، وبالطبع كانت نجران واحدة من تلك المناطق التي كان النفوذ القبلي هو السائد فيها. فقبيلة يام التي هاجرت كغيرها من قبائل جنوبي شبه الجزيرة العربية من المناطق الجنوبية، واستقرت في نجران إلى جانب بعض القبائل التي أصبحت تربطها بها روابط نسَبية أو روابط مصالح، وأصبحت تلك الأحلاف تشكل قوة كان لها أهميتها خلال الحكم العثماني في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية. وعلى الرغم من محاولات بعض الولاة العثمانيين، مثل: حسن باشا الذي حاول تثبيت الحكم العثماني في المناطق الواقعة إلى الشمال من اليمن (نجران)، التي أصبحت مركزًا للعمليات التي يقودها أبناء المطهر بن شرف الدين. ونتيجة لذلك كلفت الدولة العثمانية واليها في اليمن حسن باشا بتجهيز حملة عثمانية حيث أرسل قوة بقيادة سنان باشا إلى صعدة في عام 990هـ / 1582م كان الهدف منها القضاء على آل المطهر والسيد أحمد بن حسين المؤيدي أمير صعدة، وبالفعل نجحت تلك القوة في القضاء على تلك المقاومة، وبسطت نفوذ الدولة العثمانية على صعدة والمناطق الواقعة شمالها؛ بما في ذلك نجران لتصل إلى أبعد المناطق التي استطاع العثمانيون الوصول إليها في حكمهم الأول لبلاد اليمن. 
 
ومع أن الحكم العثماني لم يتحقق إلا في عهد الوالي حسن باشا الذي وصف "بفاتح اليمن" إلا أن ذلك الاستقرار لم يدم طويلاً؛ بسبب تعسف الولاة العثمانيين في جمع الضرائب، وعدم الاهتمام بشؤون البلاد. ونتيجة لذلك وجد الإمام القاسم بن محمد بن علي الفرصة سانحة للثورة على العثمانيين مستغلاً تذمر الأهالي من الحكم العثماني، فمع بداية القرن الحادي عشر الهجري قاد الإمام القاسم مقاومته ضد النفوذ العثماني، وشارك معه عدد من القبائل المتذمرة من الحكم العثماني، القاطنة في أطراف إقليم اليمن الشمالي. وخلال ربع قرن من الزمن ظلت المقاومة المحلية نشطة ضد الحكم العثماني، وكانت بمنـزلة مقدمة لطرد العثمانيين من جنوبي الجزيرة العربية، حيث أصبح إقليم جنوبي الجزيرة العربية هو الإقليم العربي الأول الذي استطاع أن ينأى بنفسه عن حكم الدولة العثمانية  
 
ومع أن العثمانيين حاولوا تثبيت حكمهم في المناطق الواقعة جنوب غربي شبه الجزيرة العربية لفترة زمنية قاربت قرنًا من الزمن إلا أن كثيرًا من الصعاب واجهتهم، ومن تلك الصعاب المقاومة العنيفة التي كانت تواجهها القوات العثمانية سواء كان ذلك من قِبل السكان في السراة أو في تهامة، ونتجت من ذلك خسائر مادية وبشرية تعرض لها العثمانيون في حروبهم ضد القوى المعارضة لهم جعلتهم يقومون بعقد صلح مع القوى المحلية. وإلى جانب تلك الصعاب التي واجهها العثمانيون في جنوب غربي الجزيرة العربية كانت هناك ظروف إقليمية ودولية جعلت الدولة العثمانية تفكر جديًا في إخلاء ذلك الإقليم من قواتها، ومن تلك الظروف ضعف موقف العثمانيين في مصر التي تعد مركز الإمدادات البشرية والمالية لمساندة القوات العثمانية في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية. ومن الأسباب الدولية التي جعلت العثمانيين اختفاء الدوافع التي أدت إلى وجودهم في تلك المنطقة، حيث ضعفت القوى العالمية المنافسة لهم في البحار الجنوبية والشرقية، مثل: البرتغاليين والصفويين. وقد أدت هذه الأسباب جميعها إلى أن يتخذ السلطان مراد الرابع قرارًا بسحب القوات العثمانية من جنوبي شبه الجزيرة العربية في عام 1045هـ / 1635م  
 
إن الفترة التي قضاها العثمانيون في إقليم جنوب غربي الجزيرة العربية اتسمت بميزات متعددة منها: أن الدولة العثمانية بسطت نفوذها على السواحل في بداية الأمر، وكان هدفها هو القضاء على الخطر البرتغالي الذي كان يهدد البحر الأحمر بوصفه خط الدفاع الأول عن الأمكنة المقدسة التي أصبحت هي الأخرى في طائلة الخطر البرتغالي. ومن الميزات التي امتاز بها الحكم العثماني ظاهرة تغيير الولاة الذين يدفعون في العادة ضرائب لخزينة الدولة، وهذا بالطبع جعل أولئك الولاة يجمعون تلك الضرائب من الأهالي الذين أخذوا يتذمرون من فرض الضرائب الباهظة عليهم. ونتيجة لذلك تعاون الأهالي مع بعض الزعامات المحلية التي وجدت الفرصة مواتية للثورة على العثمانيين وطردهم خصوصًا بعد أن تأكد لهم أن العثمانيين لم يقدموا فقط لطرد البرتغاليين؛ وإنما للسيطرة على الإقليم. ومن الميزات التي اتسمت بها فترة الحكم العثماني الأول في جنوبي الجزيرة العربية، أن الحكم العثماني لم يشمل المناطق الداخلية رغم تغيير الدولة العثمانية سياستها في محاولة بسط نفوذها على معظم أنحاء البلاد، ولكنها قوبلت برفض ومقاومة عنيفة جعلت القوات العثمانية تتراجع إلى مراكز تجمعاتها، وهذا ما جعل المناطق البعيدة عن المناطق الساحلية تحافظ على استقلاليتها، وكانت نجران واحدة من هذه المناطق التي لم تلتزم بدفع الضرائب للعثمانيين إلا في فترات محدودة.
 
ومع أن نجران كانت بعيدة عن مركز العمليات العسكرية التي جرت في منتصف القرن العاشر بين الدولة العثمانية والقوى السياسية. إلا أن انتقال العمليات العسكرية إلى شمال اليمن جعل القبائل النجرانية تشارك في القتال ضد القوات العثمانية قبل أن تبسط هذه القوات سيطرتها على منطقة نجران. وبعد أن قام الأئمة الزيديون بالثورة على الولاة العثمانيين وجدت القبائل النجرانية الفرصة لرفض الالتزام بالضرائب التي كان يتقاضاها العثمانيون منها، بل إن قبيلة يام كانت من القبائل التي شاركت مع الإمام القاسم وابنه محمد في الثورة ضد الحكم العثماني في العقود الأولى من القرن الحادي عشر الهجري. وعندما جلا العثمانيون عن اليمن بدأت القبائل النجرانية ترفض أي نفوذ من القوى السياسية المحيطة بها؛ وبخاصة الأئمة الزيديون في اليمن، بل إن ذلك الرفض تعدى إلى مهاجمة قبيلة يام الحجاج القادمين من اليمن. ونتيجة لذلك قام الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم بإرسال عدد من الحملات في أوائل السبعينيات الهجرية من القرن الحادي عشر إلى قبائل يام وغيرها من القبائل النجرانية من أجل كسر شوكتها وتأمين طريق الحج 
 
وخلال الفترة التي تلت الحكم العثماني في اليمن ظلت نجران تتمتع باستقلاليتها عن القوى السياسية المحيطة بها رغم محاولة الأئمة الزيديين بسط نفوذهم على المنطقة. ويبدو أن المشكلات الداخلية لليمن تركت آثارها على نجران، فوجود محمد المكرمي في نجران جعل عدم التفاهم بين الزيديين وبين قبائل نجران يبرز واضحًا، وهذا أدى إلى حروب بين الطرفين دفعت النجرانيين إلى رفض النفوذ الزيدي، بل أدى بالنجرانيين إلى الهجوم من وقت إلى آخر على المناطق التي كانت تحت حكم الزيديين؛ وهي مناطق كان المكارمة يعتقدون بأحقيتهم فيها. تلك الأعمال التي قامت بها القبائل النجرانية جعلت بعض الأئمة الزيديين يحاولون بسط نفوذهم على المناطق الواقعة إلى الشمال لإقليم اليمن خصوصًا نجران، ففي سنة 1086هـ / 1676م قام المهدي عباس بن الحسين بإرسال حملة بقيادة علي بن أحمد لغزو نجران بقصد فرض نفوذه عليها واستخلاص بعض الزكوات من أهلها، ولكنهم رفضوا ذلك، ونتيجة لذلك كثف عملياته العسكرية على منطقة نجران؛ مما اضطر بعض قبائلها إلى التسليم بدفع الزكوات  
 
لقد كان الهدف الأكبر للأئمة الزيديين هو طرد العثمانيين من اليمن، حيث نجحوا في تحقيقه، ولكن كان هناك بعض المشكلات الداخلية التي كادت تؤثر في موقف أئمة اليمن في صراعهم مع العثمانيين؛ وقد تمثلت تلك المشكلات في ثورة المكارمة ضد الزيديين في بداية القرن الثاني عشر الهجري، ولقد أولى الأئمة الزيديون تلك الثورات أهمية كبيرة، وتعاملوا معها بقوة وحزم حيث قام الإمام المنصور الحسين بن القاسم بإجلاء المكارمة من طيبة ومراكز تحصينهم، مثل: حصن صفعان وأفئدة في عام 1127هـ / 1715م حيث لجؤوا إلى نجران وطلبوا الحماية من قبائلها. ويبدو أن توجه المكارمة إلى نجران برئاسة زعيمهم محمد بن إسماعيل المكرمي الذي كان يهدف إلى تأليب القبائل النجرانية؛ وبخاصة قبيلة يام التي كانت على خلاف مع حكام اليمن؛ نتيجة لقيام الإمام القاسم بعدة حملات على نجران بقصد إخضاعها لحكمه. وبعد وصول المكرمي إلى نجران قرر مع القبائل النجرانية مهاجمة اليمن بعد أن تحالف مع بعض القبائل القاطنة في المخلاف السليماني؛ وهي قبائل تربطها بها روابط تاريخية، في محاولة لاستعادة المناطق التي كان للمكارمة نفوذ عليها داخل المناطق التي يسيطر عليها الإمام المنصور  
 
ومع أن الخلافات كانت سمة من السمات البارزة في العلاقات بين أئمة الزيدية وبين القبائل النجرانية، إلا أن القبائل النجرانية استغلت بعض الخلافات بين الإمام المنصور الحسين بن القاسم بن المؤيد 1127 - 1131هـ / 1716 - 1720م وبين أحد إخوته؛ وهو الإمام أحمد بن القاسم، وقامت بغزو صنعاء محاولةً إسقاط حكم الإمام، ومع أنها استطاعت أن تحقق انتصارات أولية، إلا أن مساندة بعض القبائل اليمنية المتمركزة وسَط اليمن جعل القبائل النجرانية تعود إلى نجران  
 
لقد ظلت القبائل النجرانية على الرغم من محاولات الأئمة الزيديين بسط نفوذهم على نجران تتمتع بنوع من الاستقلالية التي يمكن إدراكها من القوة التي كانت تتمتع بها تلك القبائل التي تتمثل في مهاجمة الأراضي التابعة للأئمة الزيديين، ففي عام 1142هـ / 1730م قامت قبيلة يام بالتعاون مع بعض الزعماء الدينيين في اليمن؛ وبخاصة المكارمة الذين كانوا على خلاف مع الإمام المنصور الحسين بن القاسم بن محمد 1139 - 1161هـ / 1727 - 1748م بغزو بعض المناطق التابعة للإمام، مثل: بيت الفقيه بن عجيل، وقامت بنهبه. وعندما علم الإمام بتقدم يام إلى صنعاء أخذ في الاستعداد لذلك، بل إنه طلب من قبائل بكيل ذات الولاء القوي للإمام ملاقاة قبائل يام، ومنعها من دخول مدن اليمن وقراها، وبالفعل توجه علي بن عبدالله المؤيد بقبائل بكيل والتقى بقبيلة يام في المحمرة وحقق النصر على قبيلة يام التي اضطرت إلى الانسحاب إلى نجران  
 
وخلال القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي استمرت قبائل نجران؛ وبخاصة قبيلة يام تشارك في الصراعات السياسية في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية، فعندما حدث الخلاف بين الشريف محمد بن أحمد أمير المخلاف السليماني وبين الأمير أحمد بن خيرات القطبي؛ بسبب إقامة سد صغير على وادي جازان، التجأ الأخير إلى قبيلة بني الحارث القاطنة إلى الشرق من أبي عريش، وطلب حمايتها. ونتيجة لذلك قام الشريف محمد بن أحمد بمهاجمة بني الحارث الذين كادوا ينتصرون عليه في موقعة الحجرة سنة 1156هـ / 1744م، ولكن تدخل يام إلى جانب الشريف عند عودتهم من إحدى غزواتهم على اليمن رجح كفة الشريف محمد بن أحمد على أحمد بن خيرات وبني الحارث حيث حقق عليهم نصرًا كبيرًا في موقعة الموقص، كما استعان الإمام المنصور بالقبائل النجرانية في بداية عهده لتثبيت حكمه ضد بعض المعارضين له ووعدهم بإقطاعهم بلاد حراز، وبالفعل استجابت قبيلة يام لنصرة الإمام، وعندما حقق النصر على معارضيه نكث بوعده بعد عودة الياميين إلى نجران. ولذلك عادت قبيلة يام إلى اليمن وقامت بمحاربة الإمام، بل وهاجمت كثيرًا من المناطق التابعة له؛ وبخاصة في منطقة التهائم، حيث وصلوا إلى بندر الحديدة  
 
ولقد ثمّن الشريف محمد بن أحمد لقبيلة يام ما قامت به من نصرته ضد الأمير القطبي وخلفائه من بني الحارث، وبعد عودة يام إلى نجران قام بزيارتهم محاولاً توثيق العلاقات مع قبائل نجران التي أصبحت لها مكانتها السياسية وقوتها العسكرية في المنطقة. وبعد وصوله إلى نجران استُقبل أحسن استقبال، وبدأ يخطط مع القبائل النجرانية لإقامة حلف ضد إمام اليمن. وبالفعل عقد اتفاق بين الشريف محمد بن أحمد وبين زعماء يام وبعض من قبائل نجران؛ لغزو المناطق التابعة لإمام اليمن، واتفق الطرفان على التوجه إلى صعدة، وعندما علم بذلك إمام صنعاء أرسل ابنه جمال الدين علي بن القاسم بن علي للتصدي للشريف محمد وقبيلة يام، وعندما تقابل الطرفان استطاع الشريف وحلفاؤه تحقيق النصر على ابن الإمام؛ مما اضطر الإمام إلى عقد صلح مع المنتصرين  .  ويبدو أن الشريف قام بهذه الأعمال ليظهر قوته أمام إمام صنعاء، ويحاول تصفية حسابه مع بعض المنافسين له في المخلاف السليماني، أما يام فقد كان من أهدافهم محاولة إظهار هيبتهم في المنطقة.
 
إن الأحداث السياسية والعسكرية التي مرت بها نجران منذ انتقال زعامة المكارمة من طيبة والمناطق اليمنية الأخرى إليها، فعلى الرغم من أن مركز الإسماعيلية في طيبة إلا أن استقرار إبراهيم المكرمي في نجران منذ عام 1042هـ / 1633م أعطى المكارمة خيارًا إستراتيجيًا باللجوء إلى منطقة نجران عندما يجدون أنفسهم مضطرين إلى ذلك تحت ضغوط سياسية أو عسكرية من أئمة اليمن. وعلى الرغم من بقاء الداعية الإسماعيلي في طيبة باليمن، إلى أن أخذت السلطة الإمامية في صنعاء شن حروب على الإسماعيلية اضطر داعية الإسماعيلية إلى اللجوء إلى نجران في عام 1114هـ / 1703م، ومنذ لجوء المكارمة إلى نجران واستقرارهم فيها نجد أن الأمر أصبح بأيدي الدعاة، فهم الذين يتولون القرارات السياسية والعسكرية في معظم القبائل النجرانية؛ وأصبحت هذه القبائل أكثر ولاءً للدعاة الإسماعيليين الذين أصبحوا يتوارثون السلطة الدينية والدنيوية   في تلك الفترة.
 
وخلال القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي واجهت القبائل النجرانية، مثل غيرها من القبائل التي تقطن شبه الجزيرة العربية مشكلات عديدة، مثل: قلة الأمطار، والفقر، والجوع، وكثرة الحروب؛ مما اضطر بعض فروع القبائل النجرانية خصوصًا العجمان الذين يعدُّون أحد فروع قبيلة يام إلى الهجرة إلى نجد والمناطق الشرقية لشبه الجزيرة العربية، ففي عام 1130هـ / 1718م تقريبًا ترك العجمان منطقة نجران ميمِّمين صوب الشمال طلبًا للتوسع في أراضٍ جديدة تكون أكثر غنى من المناطق التي يعيشون فيها. ومع أن معظم المناطق النجدية كانت تسيطر عليها قبائل قوية، إلا أن العجمان استطاعوا التنقل والتعايش مع تلك القبائل في عدد من مناطق نجد  
 
والمتتبع لتاريخ نجران خلال القرنين: العاشر والحادي عشر الهجريين / السادس عشر والسابع عشر الميلاديين يتبين له أن القبائل النجرانية؛ أدَّت دورًا مهمًا في حماية المنطقة من أطماع أئمة اليمن. هذا الدور لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى الوقوف ضد الحكم العثماني الذي كان يحاول أحيانًا مد نفوذه في المناطق الداخلية؛ نتيجة لردة الفعل لدى الأهالي الذين أخذوا في تغيير موقفهم من العثمانيين الذين قدموا إلى اليمن، وهذا يعطي دلالة على قوة نفوذ القبائل النجرانية وحمايتها لاستقلال مناطقها. ولقد امتدّ نفوذها ليصل إلى حد التدخل في شؤون حكام المخلاف السليماني في بعض الفترات، بل وتعدى ذلك إلى طلب بعض قبائل المخلاف السليماني إقامة بعض التحالفات مع القبائل النجرانية للوقوف ضد أطماع أئمة اليمن في المنطقة كما سبق.
 
 عهد الدولة السعودية الأولى 1218 - 1228هـ / 1803 - 1813م
 
كانت شبه الجزيرة العربية بأكملها خلال القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي تنقسم إلى وحدات سياسية أو قبلية تسودها المنازعات والفوضى؛ نتيجة عدم وجود سلطة مركزية قوية تستطيع أن تحكم قبضتها على البلاد. وكان ذلك النـزاع تؤججه الخلافات حول الكلأ والماء، خصوصًا في ظل بيئة يعمل معظم سكانها في حرفة الرعي والزراعة. في ظل تلك الظروف أخذت الحروب تتنامى بين الوحدات السياسية والقبلية يدفعها إلى ذلك الروابط النسَبية والمصالح المشتركة بين الأطراف المتحالفة، ولم تقف حالة البلاد عند هذا الحد، بل عانى المجتمع من ضعف التعليم، ومن ثَمَّ بَعُد المجتمع عن الدين الإسلامي الصحيح، حيث انتشرت البدع والخرافات، وأصبح كثير من الممارسات غير الصحيحة شائعًا في البلاد. في ظل تلك الظروف نادى الشيخ محمد بن عبدالوهاب بدعوته الإصلاحية التي أكدت على العودة إلى الدين الإسلامي الصحيح والقضاء على ما كان موجودًا من البدع والشركيات، بل والفوضى الأمنية التي كانت تعصف بالبلاد. ففي عام 1157هـ / 1744م بايع الشيخ محمد بن عبدالوهاب الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية على العمل معًا في سبيل نصرة الدعوة التي كان من أهدافها إصلاح ما يعاني منه المجتمع من خلل في تطبيق الدين الإسلامي الصحيح  
 
هذه الدعوة الإصلاحية واجهت عددًا من المعارضات داخل نجد وخارجها، وكانت قبائل نجران من أولى التكوينات الاجتماعية التي هددت تلك الدعوة لأسباب اجتماعية قادت زعماءها للتدخل في نجد في محاولة للأخذ بالثأر من السعوديين الذين ساندوا بعض القبائل التي كانت على خلاف مع قبيلة العجمان التي ترتبط بصلة نسب مع قبيلة يام النجرانية. ففي عهد الإمام محمد بن سعود قامت الدولة ببعض الحملات على المعارضين للدعوة في عدد من المناطق المجاورة للدرعية، وبينما كان الأمير عبدالعزيز بن محمد يقود بعض الحملات في منطقة سدير وصلته الأخبار بقيام قبيلة العجمان بالإغارة على قبيلة سبيع الموالية للدعوة ونهبها. ولم يتردد الأمير عبدالعزيز بن محمد في نصرة قبيلة سبيع حيث أغار على قبيلة العجمان والتقى بهم في موقعة قذلة في عام 1177هـ / 1763م وقتل منهم نحو 50 رجلاً، وقام بأسر عدد من أفرادها، ونتيجة لذلك قرر العجمان الاستعانة بقبيلة يام أبناء عمومتهم، حيث أرسلوا وفدًا إلى نجران يطلب النصرة من زعيمها حسن بن هبة الله المكرمي الذي لم يتردد في إعداد جيش ليأخذ بالثأر من أنصار الدعوة السلفية. وتقدم جيش حسن بن هبة الله المكرمي إلى نجد، وانضمت إليه قبيلة العجمان، والتقى الطرفان في الحائر الواقعة جنوب الرياض، في سنة 1178هـ / 1764م حيث حقق الجيش النجراني نصرًا كبيرًا على جيش عبدالعزيز بن محمد وقتل منه أكثر من 400 رجل، وأسر كثيرًا منه. ونتيجة لذلك اضطر قادة الدولة السعودية إلى عقد صلح مع حسن بن هبة الله المكرمي بعد أن التزموا له بفك أسرى العجمان الذين أسرهم الأمير عبدالعزيز بن محمد في معركة قذلة والتزموا له أيضًا بدفع مبالغ مالية كبيرة على أن يعود إلى نجران، وبقبول المكرمي هذا الصلح نجحت الدعوة في التخلص من أهم الأخطار الخارجية التي قابلتها في بداية تكوينها  
 
وبينما كان القتال يدور في جنوبي نجد كانت هناك قوىً محلية وإقليمية تتابع تطورات الحرب، وتتمنى نجاح حسن بن هبة الله المكرمي في القضاء على الدعوة في مهدها حتى لا تهدد مصالحها. ومن بين تلك القوى بنو خالد في الأحساء الذين ما إن سمعوا بقدوم قبائل نجران إلى نجد حتى قرروا القدوم إلى الدرعية في محاولة لخلق مشكلات جديدة للدعوة التي كان زعماؤها قد ركزوا دفاعاتهم ضد التحالف بين العجمان وأبناء عمومتهم قبائل نجران. وفي أثناء القتال وصلت حملة بني خالد إلى العارض في محاولة للتأثير نفسيًا على الناحية المعنوية لجيش الإمام محمد بن سعود المرابط في منطقة الحائر. ولم يكتفِ بنو خالد بذلك، بل راسلوا حسن بن هبة الله المكرمي يطلبون منه التريث في منطقة الحائر حتى تصل القوات الخالدية، وتقوم بالإجهاز على أنصار الدعوة، ولكن رسالة زعماء بني خالد لم تصل إلى الزعيم النجراني إلا بعد عقده صلحًا مع الإمام محمد بن سعود، وفكه أسر المعتقلين من العجمان، وبذلك اعتقد المكرمي أنه حقق هدفه، ولم يأبه بتلك الرسالة، بل قرر العودة إلى نجران  
 
ولم تتوقف العلاقة العدائية بين أهالي نجران وبين أبناء عمومتهم العجمان من جانب وبين الدولة السعودية من جانب آخر عند هذا الحد، بل ظل العجمان مصدر مشكلات متعددة في جنوبي نجد تدفعهم إلى ذلك مناصرة أبناء عمومتهم في نجران، وتحالفهم مع بعض القبائل في المنطقة. ففي عام 1179هـ / 1765م تحالف العجمان مع قبيلة الدواسر، ونـزلوا في الدجاني بأعالي نجد في محاولة لإظهار ضعف موقف الدولة وعدم قدرتها على القيام بأي عمل عسكري ضدهم. ولكن الإمام عبدالعزيز بن محمد سيّر حملة بقيادة ابنه سعود لإيقاف تعديات قبيلة العجمان ومن حالفهم من القبائل الأخرى. وعلى الرغم من تحقيق جيش الأمير سعود نجاحًا ضد أولئك المتحالفين، إلا أنهم عادوا وتكاثروا على أنصار الدولة؛ مما اضطر سعود إلى العودة إلى الدرعية. وظهر من تلك المناوشات أن الدولة ما زالت تعاني جرّاء تأثيرات هزيمة الحائر خصوصًا أن هناك قبائل أخرى بدأت تناصر قبائل نجران  
 
ومع أن الدولة السعودية الأولى فرضت هيبتها بعد استيلائها على الرياض في نجد وهذا دفع خصومها إلى طلب تدخلات القبائل النجرانية التي كانت تبحث عن الأموال من خلال الحروب التي تمارسها سواء كان ذلك في جنوب منطقة نجران أو شمالها. حيث تدخل حسن بن هبة الله المكرمي في شؤون نجد مرة أخرى رغبة في المال؛ فبعد عودة الجيش النجراني عقب معركة الحائر عام 1178هـ / 1764م عاد الإمام محمد بن سعود إلى الدرعية، استمر مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نشر الدعوة الإصلاحية في أنحاء نجد، وكان من أهم المعارضين للدعوة في نجد الجنوبية زيد بن زامل أمير الدلم الذي أصبح في موقف ضعيف أمام حملات الدولة السعودية على منطقة الخرج التي كان يسيطر عليها. ونتيجة لذلك لجأ زيد بن زامل إلى حسن بن هبة الله المكرمي طالبًا منه تقديم العون له في حربه ضد الأمير عبدالعزيز بن محمد مقابل دفع مبالغ مالية، ويبدو أن اختيار زيد بن زامل لحسن بن هبة الله كان الهدف منه إثارة الرعب في زعماء الدعوة وأنصارها؛ خصوصًا أن انتصارات قبائل نجران في الحائر كانت لا تزال عالقة في أذهان أتباع الدعوة.
 
ولم يتردد حسن بن هبة الله في قبول عرض زيد بن زامل، حيث قام بإعداد حملة من القبائل النجرانية والدواسر واتجه بها إلى الحائر ودار بينه وبين أنصار الدعوة بعض المناوشات في سنة 1189هـ / 1784م نتج منها بعض المعارك، ولكنها لم تكن حاسمة، ثم تقدم حسن بن هبة الله المكرمي بجيشه إلى ضرماء ودارت معارك بين الطرفين وصفها ابن بشر بأنها في "صالح أنصار الدعوة". هذا الانتصار جعل حسن بن هبة الله المكرمي يعدل عن خططه التي كانت تقضي بالتقدم إلى الدرعية وإلحاق الهزيمة بالإمام عبدالعزيز بن محمد ودولته التي أصبحت تفرض سيادتها على معظم المناطق النجدية. ويبدو أن هناك بعض العوامل التي أدَّت دورًا أساسيًا في صمود أنصار الدعوة وإرغام المكرمي على اتخاذ قراره بالانسحاب إلى نجران، ومن بين هذه العوامل قوة الدولة السعودية، إذ إنه منذ معركة الحائر الأولى حتى قدوم ابن هبة الله ثانيةً استطاعت الدولة أن تحقق نجاحات كبيرة في نجد، حيث تخلصت من دهام بن دواس الذي يعد من ألد أعدائها. ومن العوامل الأخرى مرض حسن بن هبة الله القائد العام للجيش؛ مما كان له الأثر الكبير في ضعف معنويات جيشه وجعل ابن هبة الله يتخذ قراره (الانسحاب)، وهناك سبب آخر لا يقل أهمية عن السببين السابقين ألا وهو اختلاف المتحالفين فيما بينهم خصوصًا أن زيد بن زامل لم يفِ بالالتزامات التي وعد بها النجرانيين 
 
لقد كان لانفراط ذلك الحلف الأثر الكبير في مستقبل الدولة السعودية حيث استطاعت أن تقضي على بقية معارضيها في نجد، ومن بينهم زيد بن زامل الذي كان يمثل عقبة لانتشار الدعوة في المناطق الجنوبية لنجد. وكانت عودة جيش حسن بن هبة الله المكرمي إلى نجران نصرًا للدعوة في منطقة نجد، حيث أكسب أنصار الدعوة الثقة بأنفسهم، وكان هذا النصر دافعًا معنويًا كبيرًا للدولة السعودية الناشئة في صد التحالف الذي كان يقوده بنو خالد مع قبيلة المنتفق من المنطقة الشرقية، ولم يكن ذلك التحالف بأقل خطرًا على الدولة من التحالفات التي قادها زيد بن زامل وحلفاؤه من القبائل النجرانية والمتحالفة معها. وكانت تلك الحملة النجرانية نهاية للتهديد الحقيقي من قبائل نجران للدعوة التي بدأت تأخذ موقف الهجوم على جنوب غربي شبه الجزيرة العربية؛ مما جعل بعض أهالي المناطق الجنوبية يقتنعون بهذه الدعوة ويتعاطفون معها.
 
وبعد عودة حسن بن هبة الله المكرمي إلى نجران ظلت القبائل النجرانية تمارس أنشطتها العسكرية في المناطق القريبة من نجران؛ وبخاصة منطقة عسير وبعض المناطق اليمنية، كما أن العلاقة مع عسير لم تكن في أحسن حالاتها، وذلك بسبب غزو النجرانيين عسير سنة 1199هـ / 1785م حيث قاموا بالهجوم على المراكز الحضرية لتلك المنطقة. أما العلاقة مع أمراء المخلاف السليماني فكانت تتسم بكثرة تدخلات هذه القبائل في شؤون المخلاف، خصوصًا أنهم كانوا يقاتلون إلى جانب أحد الأطراف المتصارعة. عندما تقع الخلافات بين أمراء المخلاف، حيث وجدت هذه القبائل النجرانية فرصتها في مد نفوذهم وتأثيرهم بسبب كثرة التجاء أمراء كل من جازان وأبي عريش إليها سواء في الحروب بين أمراء المخلاف، أو حروب أولئك الأمراء الخارجية سواء كان ذلك ضد أمراء عسير أو مع أئمة اليمن 
 
وبعد توحيد نجد بدأت الدولة السعودية تتطلع إلى نشر مبادئ الدعوة الإصلاحية في المناطق المحيطة بها، حيث أُرسلت بعض الحملات إلى المعارضين للدعوة؛ بخاصة في أطراف نجد الشرقية والشمالية. أما أطراف نجد الغربية والجنوبية، فقد تأخر المد السعودي إليها، ولو أن هناك محاولات قام بها بعض شيوخ القبائل المؤيدين للدعوة، فبعد إقناع بعض أفراد قبيلة قحطان بالدعوة، قام هادي بن قرملة ببعض الحملات على أطراف نجد الجنوبية، بل إنه وصل إلى أطراف نجران الشمالية. وفي عام 1210هـ / 1795م غزا مبارك بن هادي بن قرملة بفرقة من قبيلة قحطان نجران وأغار على آل هندي وغنم كثيرًا من أموالهم واستولى على بلادهم، وفرض عليهم الزكاة يؤدونها إلى الدولة السعودية. 
 
ومع أن الدولة السعودية ركزت جهودها الحربية في بداية القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي على المناطق الشرقية لشبه الجزيرة العربية نتيجة لاعتبارات سياسية وإستراتيجية، إلا أنها عادت لتكثيف جهودها في سبيل نشر الدعوة في المناطق الواقعة جنوب غربي شبه الجزيرة العربية. وفي العقد الثاني من القرن الثاني عشر استطاعت الدولة السعودية الأولى أن تبسط نفوذها على عسير بفضل مناصرة عبدالوهاب أبونقطة وأخيه محمد بن عامر الدعوة الإصلاحية، وكانت الخطوة التي تليها هي التطلع إلى ضم منطقة المخلاف السليماني وكان لكل من أحمد بن حسين الفلقي من صبيا وعرار بن شار أمير بني شعبة الأثر الكبير في انضمام المخلاف السليماني إلى الدولة السعودية الأولى ونشر مبادئ الدعوة بين سكانه، وعلى الرغم من أن بعض الأمراء الآخرين في المخلاف السليماني وقفوا موقف المعارض من الدعوة وحاولوا الوقوف ضدها عسكريًا، إلا أنهم فشلوا في تحقيق ذلك؛ بسبب عدم وجود المساندة لهم داخليًا وعدم استجابة القوى الخارجية، مثل: قبيلة يام المعروفة بتدخلاتها الكثيرة في شؤون المخلاف السليماني لمساعدتهم  
 
وكان من أبرز أمراء المخلاف الشريف حمود أبو مسمار الذي حاول البحث عن عون خارجي من القوى المحيطة به؛ وبخاصة من إمام صنعاء الذي لم يستجب لمطلبه؛ بسبب المشكلات الداخلية التي كان يعانيها، لذا فإن خيار الشريف الثاني انصبَّ على مكاتبة أهالي نجران للوقوف معه ضد القوات السعودية بقيادة عبدالوهاب أبونقطة، تلك القوات التي بدأت في مهاجمة المخلاف السليماني. وعلى الرغم من أن علاقة الشريف حمود مع أهالي نجران كانت جيدة إلا أنهم رفضوا مساعدته محتجين ببطء سير القوات السعودية التي تحتاج إلى كثير من الوقت للوصول إلى أبي عريش. ورغم إرسال الشريف بعض الأموال مع ابن أخيه علي بن حيدر إلى زعماء يام ليستميلهم إلى جانبه، ويبدو أن القوات السعودية لم تعطِ الشريف ولا القبائل النجرانية الفرصة لترتيب دفاعاتهم عن المخلاف السليماني، إذ هاجمت الشريف حمود وألحقت به هزيمة في موقعة أبي عريش، ونتيجة لذلك أعلن الشريف ولاءه للدولة السعودية وعيِّن أميرًا على المخلاف من قِبل الدولة السعودية  
 
ومع أن قبائل نجران غزت المناطق اليمنية خلال دخول القوات السعودية إلى المخلاف السليماني إلا أن الإمام المنصور علي إمام اليمن حاول الاستعانة بهم لصد الحملات السعودية في تهامة اليمن خصوصًا عندما أخذ الشريف حمود أبومسمار في غزو المناطق اليمنية؛ بغية ضمها إلى إمارته باسم الدولة السعودية. ونتيجة لذلك استدعى إمام اليمن، أحد شيوخ فروع قبيلة يام ووعده بأموال طائلة إذا أقنع قبائل يام الأخرى بالوقوف ضد الحملات السعودية في اليمن. ومع أن بعض القبائل اليامية لم تقتنع، إلا أنه نجح في إقناع بعضها الآخر لمناصرة إمام اليمن ضد القوات السعودية التي كانت تتقدم إلى الحديدة. ففي شهر رمضان 1220هـ / 1805م عندما كانت القوات السعودية تتجه إلى الحديدة شارك اليمنيون بعض عشائر نجران إلى جانب عامل الحديدة ضد القوات السعودية في موقعة باجل، ومع ذلك استطاعت القوات السعودية هزيمة اليمنيين وأعوانهم مما جعلهم ينسحبون إلى نجران. 
 
ومع أن بعضًا ممن شارك في القتال إلى جانب عامل الحديدة انسحب إلى نجران، إلا أنهم عادوا مرة أخرى وهاجموا قبيلة سنحان إحدى القبائل التابعة للدولة السعودية المجاورة لنجران، فما كان من الإمام سعود بن عبدالعزيز إلا أن طلب من عبدالوهاب أبونقطة أن يوجه حملة إلى نجران؛ لكي يعاقب القبائل النجرانية، وينشر مبادئ الدعوة في نجران. وأصدر الإمام عبدالعزيز بن محمد أوامره إلى بعض الأمراء القريبين من منطقة نجران بالتعاون مع عبدالوهاب أبونقطة ومن هؤلاء الأمراء: ربيع بن زيد الدوسري وإبراهيم بن مبارك بن هادي، وسالم بن شكبان أمير بيشة، كما أصدر أوامره عام 1220هـ / 1805م إلى قبائل قحطان وسار عبدالوهاب أبونقطة بتلك الجموع التي بلغت نحو ثلاثين ألفًا إلى بادية نجران والتقى بقبائل يام وغيرهم من القبائل النجرانية في بدر الجنوب ودارت معركة بين الطرفين استمرت مدة ثلاثة أيام، وقد قتل فيها عدد من المقاتلين كان من بينهم إبراهيم بن مبارك، رئيس الوداعين. وبعد هذه المعركة أقام أبونقطة نحو شهرين بنى خلالها بعض الاستحكامات العسكرية، مثل: الحصون والقلاع وترك فيها بعض الحاميات السعودية قاصدًا بذلك إظهار هيبة الدولة السعودية وليقوم بجمع الزكوات من المناطق التي بسطت الدولة نفوذها عليها. 
 
ونتيجة للنشاط العسكري الدعوي الذي قام به أنصار الدولة السعودية الأولى في بادية نجران قدم وفد من أهالي نجران برئاسة مقبل بن عبدالله إلى الإمام سعود بن عبدالعزيز في الدرعية ليلتزم له بالولاء والطاعة وأداء الزكاة فقابله الإمام بالإكرام وكتب كتابًا إلى أمراء نجران وأشرافهم ورد فيه:
 
"... من سعود إلى جناب الأشراف حسين بن ناصر وحسن بن دهشان وحمزة ومحمد ابنا حسن وحسين بن أحمد ومقبل بن محمد وصالح بن عبدالله، وأحمد بن معوض، وأحمد علي بن شما، وصالح حسين مسلى سلمهم الله من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات وبعد، ألفى علينا مقبل بن عبدالله، وأشرف على ما ن
شارك المقالة:
128 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم