العصر الحجري القديم في منطقة جازان في المملكة العربية السعودية.
يُمثل هذا العصر أقدم الفترات الحضارية التي عرفتها البشرية، ويشمل ثلاثة أقسام رئيسة: هي العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط والمتأخر ، ويشتمل العصر الحجري القديم الأسفل على حضارتين أساسيتين هما: الحضارة الألدوانية والحضارة الآشولية، والحضارتان تمثلان المراحل الأولى من معرفة الإنسان لاستخدام المواد الحجرية الخام، وصيد الحيوانات البرية، وجمع الثمار والنباتات البرية. وبحسب المسوحات الميدانية التي تمت في المنطقة من قبل وكالة الآثار والمتاحف فلم يتم العثور على أي مواقع تعود إلى الحضارة الألدوانية حتى الوقت الراهن، على الرغم من وجود دلائل أولية في منطقة نجران المجاورة لها
كما أن احتمالات العثور على مواقع ألدوانية في المنطقة مستقبلاً يُعد أمرًا واردًا؛ لوجود عدد من الدراسات التي تؤكد أهمية منطقة جنوب الجزيرة، وتحديدًا مضيق باب المندب؛ لأنه أحد المسارات التي سلكتها الجماعات البشرية المبكرة في هجرتها من القارة الإفريقية إلى جنوب الجزيرة العربية.
ويبرز دور منطقة جازان الحضاري في وجود المقومات الحضارية التي تدعم وجود مجموعات بشرية صغيرة استفادت من الموارد الغذائية المتوافرة في المنطقة، وخصوصًا أن الموارد الغذائية الساحلية كان لها دور كبير في دعم الاحتياجات المعيشية لهذه المجموعات البشرية من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن وجود صخور بركانية يعود عمرها إلى نحو مليون سنة مضت سيساعد على تحديد عمر أي بقايا أثرية خلفتها الجماعات البشرية في تلك الفترة
وأما فيما يرتبط بفترة الحضارة الآشولية فقد اعتمدت الجماعات البشرية على تقنية صناعة حجرية أكثر تقدمًا من تلك المعروفة في الحضارة الألدوانية، التي تمثلت بصناعة الأدوات ثنائية الوجه، وبخاصة الفؤوس الحجرية، والشظايا والمكاشط والسواطير وغيرها. وتؤكد الدراسات والمسوحات الميدانية التي تمت على ساحل البحر الأحمر عمومًا، ومنطقة جازان خصوصًا؛ أنها من أفضل المناطق التي تحوي مواقع أثرية تعود إلى الحضارة الآشولية
كما أظهرت دراسة علمية حديثة لساحل البحر الأحمر من جازان جنوبًا حتى القنفذة شمالاً وجود عدد من مناطق انتشار الحمم التي أرخت بطريقة البوتاس إلى نحو 1.3 مليون سنة مضت، يغطي بعضها أجزاء من ساحل البحر الأحمر ، وقد تركزت هذه الحمم البركانية جنوب البرك وشمال الشقيق، حيث وجدت فؤوس حجرية وسواطير ومفارم وسكاكين وشظايا ونوى ومطارق حجرية صنعت من الأحجار البركانية الموجودة محليًا ، وقد رافق التطور التقنيَّ في صناعة الأدوات الحجرية الآشولية تطور مماثل في قدرات الجماعات البشرية في الحصول على الغذاء والاستفادة من الموارد البرية والبحرية لتغطية احتياجاتهم المعيشية
وتشير الدراسات الميدانية التي تمت على ساحل البحر الأحمر إلى حدوث تغيرات ملحوظة في منسوب مياه البحر، حيث ظهر أن السواحل القديمة ترتفع عن مستوى سطح البحر الحالي من 3 - 5م
ومن ناحية أخرى فقد أسهم وجود نظم نهرية في منطقة ساحل تهامة تصب في البحر الأحمر في توافر المقومات الأساسية التي تجذب الحيوانات البرية وتساعد على نمو أنواع مختلفة من النباتات، التي تجذب الجماعات البشرية إلى المنطقة بشكل متواصل
وإضافة إلى المواقع الآشولية المحاذية لساحل البحر الأحمر، فقد عُثِرَ على أدوات آشولية داخل فوهة بركان خامد في الموقع رقم 216 - 211، ودلالات وجود ورشة تصنيع للأدوات الحجرية احتوت على مفارم وشظايا ونوى حجرية، وإلى الشرق من مدينة أبو عريش تم تسجيل مجموعة من المواقع 217 - 80، 81، 82، 83 التي لم تكن أدواتها الحجرية في مكانها الأصلي، وذلك بفعل عوامل التعرية التي دفعت هذه الأدوات من منطقة الحمم . كما وُجِدَ عدد من المواقع في جبال عكوة وعلى ضفاف وادي جازان ومفرق محايل يشير نمط انتشارها الجغرافي إلى أن وجود الجماعات البشرية في المنطقة خلال الحضارة الآشولية يعود إلى توافر المقومات المعيشية المناسبة لعيش الجماعات البشرية
وسادت صناعة حجرية في العصر الحجري القديم الأوسط، تعتمد على صناعة الشظايا التي تميزت بتنوعها وتخصص أدواتها في القيام بوظائف متنوعة، فهناك أدوات للقطع والحك والثقب والكسر، وغير ذلك من المهمات اليومية التي تقوم بها الجماعات البشرية. وتشير الأعمال المسحية التي تمت في المنطقة الجنوبية الغربية - وبخاصة بقية مناطق المملكة - إلى الانتشار الملحوظ لمواقع الحضارة الموستيرية وكثافة بقاياها الحجرية.
كما يرتبط عدد من هذه المواقع بأمكنة وجود الأحجار الخام المناسبة لصناعة الأدوات الحجرية؛ خصوصًا إذا أخذ في الحسبان أن كل المواقع المكتشفة ترتبط بنشاط صناعة الأدوات الحجرية في المقام الأول، وقد ظهرت في هذا العصر ثلاث تقنيات تصنيع مميزة، وهي: الصناعة الموستيرية، والليفلوازية، والموستيرية ذات التقليد الآشولي. وقد تميزت الصناعة الموستيرية بصناعة الشظايا واستخدام النواة الحجرية في الحصول على أكبر عدد من الأدوات الحجرية، وأما الصناعة الموستيرية الليفلوازية فتقوم على صناعة نوعين من الأدوات الحجرية وهما: الشظية والرأس الليفلوازي، وذلك عبر تهيئة كتلة من الحجر تعرف باسم النواة الليفلوازية للحصول عليها، وفيما يخص الصناعة الموستيرية ذات التقليد الآشولي فتشبه الصناعة الموستيرية بخصائصها التقنية، مع وجود فارق واحد يتمثل في استخدام الفؤوس الحجرية التي كانت الأداة الأساسية في فترة الحضارة الآشولية
لم تكن هذه التقنيات الصناعية بعيدة بعضها عن بعض في المواقع الأثرية بل ربما وجدت مجتمعة في موقع واحد، وقد لا يوجد سوى نوع واحد منها في الموقع الأثري.
ومما يلاحظ على المواقع الموستيرية عمومًا وفي منطقة جازان خصوصًا وجودها في المناطق المرتفعة، حيث توجد الأحجار المناسبة لصناعة الأدوات الحجرية. وبحكم وجود حمم بركانية في أمكنة متعددة من منطقة جازان، حيث عُثِرَ على مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، فقد استخدمت الأحجار البركانية، مثل البازلت في صناعة الأدوات الحجرية التي اشتملت على الشظايا الحجرية والمفارم والمحكات والمثاقب والمسننات والأدوات اللفلوازية والنوى الحجرية الموستيرية واللفلوازية، إضافة إلى الفؤوس الحجرية
وقد سجل باحثون خلال أعمالهم المسحية في منطقة جازان عددًا من المواقع التي تعود إلى هذا العصر، ومن أبرزها موقع 216 - 205، الواقع جنوب قرية القحمة، حيث وجد كثير من النوى الحجرية القرصية. وكذلك الموقع 216 - 208. كما عُثِرَ على أدوات موستيرية فوق السواحل المرجانية بارتفاع قدره 2م تقريبًا عن مستوى سطح البحر، وشملت مجموعة من الشظايا والنوى الحجرية المصنوعة من الأحجار البركانية، وعثر في منطقة أبو عريش، في الموقع 217 - 85، على مجموعة من الأدوات الموستيرية المصنوعة من الصخور البركانية. وعلى ساحل البحر الأحمر عُثِرَ على كميات من الأدوات الموستيرية المصنوعة من الأحجار البركانية، مثل: الأنصال، والشظايا، والمسننات، والمناقيش، والنوى الحجرية . وقد تم تأريخ هذا الموقع الذي تنتشر أدواته فوق ساحل قديم مغطى بالحمم البركانية بنحو 1.3 مليون سنة مضت، أما الأدوات الحجرية فأرخت بنحو 50 ألف سنة مضت
ومما سبق يلاحظ أن دلالات وجود الجماعات البشرية في منطقة جازان خلال فترة العصر الحجري القديم الأوسط قد تضاعفت بشكل كبير عمّا كانت عليه في فترة الحضارة الآشولية. كما صاحب الزيادة العددية في المواقع الأثرية تنوع ملحوظ في الموارد الغذائية التي اعتمدت عليها الجماعات البشرية، فبعض المواقع - كما هي الحال في البرك والشقيق - قريبة من ساحل البحر الأحمر، في حين نجد أن هناك مواقع أخرى تقع في المناطق الداخلية الغذائية برية الموارد، فهي تعتمد بدرجة أكبر على هذه الموارد، كما هي حال موقع أبي عريش.
وقد صاحب هذه الفترة تحسن ملحوظ في صناعة الأدوات الحجرية شمل تقنية التصنيع، وزيادة أنواع الأدوات المخصصة للقيام بمهمات محددة، مثل: الثقب، والكسر، والحك، والكشط، وغيرها.
أسهم غياب المواقع الطبقية في عدم المعرفة الدقيقة للفترة الزمنية التي تعود إليها مواقع العصر الحجري القديم الأوسط بمنطقة جازان، كون المواد العضوية التي يُعتمد عليها في تأريخ المواقع الأثرية تندثر وتتلاشى عادة، ولا يتبقى منها سوى الأدوات الحجرية التي لا يمكن من خلالها الجزم بالعمر الزمني الذي تعود إليه مواقعها، أو الفترة الحضارية التي تنتمي إليها، إلا من خلال الدراسة النوعية والتقنية للأدوات الحجرية.
ويرى بعضهم أن مواقع الحضارة الموستيرية في الجزيرة العربية عمومًا يراوح عمرها بين 35 و 75 ألف سنة مضت إن كانت معاصرة لمثيلاتها في مناطق جغرافية أخرى ، إلا أنه من المؤكد وجود تباين ملموس بين مواقع هذه الفترة الحضارية في الجزيرة العربية وتلك التي تم توثيقها في أوروبا وبلاد الشام.
وأما فيما يخص الفترة التي تعقب العصر الحجري القديم الأوسط فلم تظهر دلالات واضحة على وجود مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى (المتأخر) في منطقة جازان، كما هي الحال بالنسبة إلى معظم مناطق المملكة الأخرى. وقد تكون الأسباب المؤدية إلى غياب أو عدم وضوح مواقع هذه الفترة أسبابًا بيئية، أو أنها ظهرت متأخرة زمنيًا
إن غياب مواقع الفترة المتأخرة من العصر الحجري القديم ينطبق أيضًا على الفترة الانتقالية الواقعة بين العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث والمعروفة باسم العصر الحجري الوسيط، فالعصر الحجري الوسيط وجدت مواقعه في أوروبا وبلاد الشام بشكل مؤكد، ولكن نظرًا إلى عدم وجود صناعات حجرية وعضوية مماثلة في الجزيرة العربية فإنه من الصعب عدُّ العصر الحجري من المراحل الحضارية التي عرفتها المملكة العربية السعودية عامة ومنطقة جازان خاصة