العصر الإسلامي الوسيط في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 العصر الإسلامي الوسيط في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية

 العصر الإسلامي الوسيط في منطقة حائل في المملكة العربية السعودية.

 
على الرغم من اهتمام المؤرخين والجغرافيين المسلمين بتدوين تاريخ منطقة حائل في فترة صدر الإسلام، من خلال الحديث عن قبيلة طَيِّئ التي كانت تتوزع بين الجبلين والعراق والشام وتأثيرها في أحداث التاريخ الإسلامي، فإن المعلومات تكاد تكون معدومة بعد ذلك عن المنطقة بشكل عام، وكان تركيز المصادر على بعض المراكز التاريخية والحضارية المهمة الواقعة على طرق حجيج العراق والمشرق الإسلامي، ثم مركز الدولة الإسلامية ولا سيما خلال عهد الخلافة العباسية، حيث خصتها المصادر المختلفة بمزيد من العناية وتدوين أخبارها. ولذلك سيتم فيما يأتي تناول أبرز تلك الحواضر التي تقع في الوقت الحاضر ضمن حدود منطقة حائل  
 
أ - فيد:  
 
ورد تعريف فيد وتحديد موقعها عند عدد من المتقدمين، فربطها بعضهم بجبلي أجا وسلمى المعروفين في شبه الجزيرة العربية، وقد حدد اليعقوبي موقع فيد فقال: "وهي في سفح جبلهم"   (أي جبل طَيِّئ المعروف بسلمى). أما ياقوت فقد أشار إلى قربها من أجا وسلمى فقال: " فيد.. قريب من أجا وسلمى جبلي طَيِّئ"  
 
بيد أن هناك من حدد موقع فيد تحديدا أكثر دقة بعد أن جمع بين التعريفات السابقة، ومن هؤلاء الحميري الذي أشار إلى موقع فيد بقولـه: "مدينة في نصف الطريق بين مكة وبغداد وأهلها طَيِّئ، وهي من أصل جبلهم المعروف بسلمى"  
 
ويعد العصر العباسي العصر الذهبي لمدينة فيد، حيث بلغت من الضخامة العمرانية والمكانة التاريخية مبلغًا أصبحت فيه مضربًا للمثل في ذلك، وأشار إلى ذلك الإصطخري عند حديثه عن الجحفة  ،  بقولـه: "وليس بين المدينة ومكة منـزل مستقل بالعمارة والأهل جميع السنة إلا الجحفة، ولا بين المدينة والعراق مكان مستقل بالعمارة والأهل جميع السنة مثل فيد" 
 
1 - نظام الولاية في فيد:
 
أقطع النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخيل (الخير) النبهاني فيد وما جاورها، وكان قد قدم في السنة العاشرة للهجرة إلى المدينة المنورة معلنًا إسلامه  .  كما عين عاملاً على الأجزاء التي تسكنها قبيلة بني أسد التي تجاور بني نبهان في فيد. وتوارث بنو نبهان خلال القرن الأول الهجري ولاية فيد، وشملت سلطة والي فيد أواخر العصر الأموي عددًا من القبائل القريبة من المدينة، والواقعة إلى الشرق منها، مثل: قبائل طَيِّئ وأسد وفزارة  
 
وقد أدى قيام الخلافة العباسية سنة 132هـ / 749م متخذة من العراق قاعدة لها إلى زيادة الاهتمام بالطرق التي تربط العراق ببلاد الحجاز، ولا سيما طريق الحج الكوفي المعروف بدرب زبيدة، حيث أصبح هذا الطريق أهم الطرق البرية التي تربطه بمقر الخلافة العباسية في بغداد. ونظرًا لمرور هذا الطريق بفيد، فقد أوكل إلى واليها مهمة الإشراف على أجزاء الطريق الواقعة ضمن ولايته. ومن ذلك ما حدث في ولاية محمد بن عبدالملك الفقعسي الذي تولى إمارة فيد سنة 190هـ / 806م، فحفر بئرًا بين الحزيز   عن يسار سميراء يشرب منها حجاج البصرة  
وفيما يتعلق بإدارة الولاية، فقد أسند خلفاء بني العباس ولاية فيد إلى قبيلتي أسد وطَيِّئ بالتعاقب  
وعندما بدأ تخلخل الأوضاع الأمنية على طرق الحج العراقية إبّان القرن الثالث الهجري إثر ثورات القبائل المتعددة، عمد الخليفة العباسي الواثق بالله   سنة 231هـ / 846م إلى استحداث ولاية طريق مكة، وأحداث الموسم، وكان من مهماته رعاية مصالح الطريق، وإصلاحه فضلاً عن حماية مرافقه، وحراسة عابريه  .  كما أصبحت فيد مقرًا للوالي الجديد، وقد أشار إلى ذلك كل من: اليعقوبي  ،  وابن رستة  ،  وقدامة بن جعفر  ، والنويري  .  ويظهر أن الوالي في فيد قد جمع مهمات رعاية شؤون الطريق وإصلاحه والإشراف على القبائل التي تقع على جنبات هذا الطريق مثل: طَيِّئ وأسد  .
 
وقد منح هذا التنظيم الجديد الذي قامت به الدولة العباسية ولاية فيد مكانة مرموقة حتى أصبحت في بعض الحقب التاريخية تضاهي بمكانتها الإدارية أهم المدن التابعة للخلافة مثل: مكة المكرمة والمدينة المنورة والكوفة  .  غير أن الخلافة العباسية لم تطبق المنهج السابق بصورة مطلقة، حيث نرى من بعض الخلفاء إسناد أمر الطريق ورعاية مصالحه إلى أحد أتباعه، رغم وجود والٍ مستقل في فيد خلال هذه الحقبة  
 
وقام تعيين الولاة في فيد بعد دخول أهلها في الإسلام على توارث بني نبهان من قبيلة طَيِّئ الولاية فيها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فآلت بعد وفاة زيد الخير إلى ابنه المهلهل  .
واستمرت الولاية في بني نبهان كما يؤكد ذلك الحربي بقوله: "ولاة فيد من بني نبهان"  .  غير أن تزعزع الأوضاع الأمنية دفع الدولة الأموية لتعيين أحد القرشيين، وهو أمية بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه  .  وفي عهد الخلافة العباسية عمد خلفاء بني العباس في محاولة للم شمل القبائل في فيد، وسهولة السيطرة على الأوضاع فيها، إلى إسناد أمر الولاية مرة إلى طَيِّئ وأخرى إلى أسد بالتبادل، كما يشير إلى ذلك ابن حبيب  .  لم تستمر ولاية فيد في العصر العباسي بيد طَيِّئ وأسد خصوصًا بعد تزايد ثورات القبائل على طرق الحج العراقية، حيث أسندت الخلافة العباسية الأمر إلى بعض أتباعها والموالين لها من القواد  
 
ولأهمية ولاية فيد ولوقوعها على طريق الحج العراقي، وطرق التجارة، ووجود كثير من القبائل في المنطقة والمناطق المحيطة بها، فقد أُوكل إلى والي فيد - إضافة إلى توليه شؤون الولاية الإدارية - جمع الصدقات المقررة على القبائل  .  وربما يكلف والي المدينة الذي يشرف على تعيين والي فيد مندوبًا من قبله لهذه المهمة. كما حدث في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك 105 - 125هـ / 723 - 742م  
 
كما حرص بعض ولاة فيد على القيام ببعض الإصلاحات التي تخدم ولايتهم في مواقع أخرى من الولاية لا تقع على طريق الحج، ومن ذلك ما أشار إليه الأصفهاني عن والي فيد محمد بن عبدالملك الفقعسي، حيث يقول: " أبان الأسود لبني أسد، وبه قرية يقال لها الشركة لبني أسد، وبها عين أجراها محمد بن عبدالله بن حبيب الفقعسي"   
 
2 - غارات القرامطة على فيد:
 
ظهر القرامطة في شرق الجزيرة العربية (بلاد البحرين)، أواخر القرن الثالث الهجري بقيادة زعيمهم أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، وبدؤوا في مد نفوذهم إلى نجد وطرق التجارة والحج في عهد ابنه أبي طاهر سليمان ابتداءً من أوائل القرن الرابع الهجري، واتخذوا من الهجوم على طريق الحج العراقي وسيلة لضرب الخلافة العباسية وزعزعتها  .  ولم يقتصر الأمر على قرامطة البحرين، بل شمل أيضًا دعاتهم في بلاد الشام، ففي سنة 294هـ / 907م قام داعية القرامطة في بلاد الشام زكرويه بن مهرويه القرمطي بهجوم على قوافل الحج العائدة من الأراضي المقدسة، بعد تحركها من فيد نحو العراق  .  غير أن القافلة المحملة بالبضائع والأموال والنفائس التجأت إلى فيد وأقاموا بها أيامًا ينتظرون الدعم والمساندة من الخلافة العباسية في بغداد، فطال انتظارهم؛ ما اضطرهم إلى الخروج، فالتقوا القرامطة الذين هاجموهم ونهبوا القافلة  .  ويتضح من تلك الحادثة أن مدينة فيد كانت محصنة؛ ما لم يمكن القرامطة من اقتحامها. وقد أشار النويري   إلى أن طول مقام هذه القافلة في فيد ونفاد المؤن وغلاء الأسعار في أسواقها، قد دفعها إلى المغادرة رغم المخاطر التي تتهددها من القرامطة لحظة خروجها. وهكذا واصل القرامطة هجماتهم على فيد، فسار زكرويه إليها وحاصرها، فالتجأ والي الخليفة العباسي حامد بن فيروز- ومعه مئة من رجاله - إلى أحد حصنيها، وملأ الحصن الآخر بالرجال، وحاول زكرويه استمالة أهل فيد، فلم يتمكن من ذلك، فحاربهم غير أنه لم يظفر منهم بطائل فارتحل من فيد إلى النباج  
 
وبعد تولي أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي مقاليد الأمور في بلاد البحرين أوائل القرن الرابع الهجري بدأ في شن هجماته ضد قوافل الحج أثناء قدومهم أو عودتهم من الأمكنة المقدسة، ومن ذلك ما حدث سنة 312هـ / 924م حينما وصلت الأخبار إلى الخلافة العباسية عن عزم أبي طاهر الجنابي التعرض لقوافل الحجاج أثناء عودتهم من الأمكنة المقدسة، فأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله 295 - 320هـ / 908 - 932م   واليه على طريق مكة المكرمة أبا الهيجاء بن حمدان بالتوجه نحو فيد للإشراف على تحرك الحجاج، وبث الطمأنينة في نفوسهم، غير أن الحجاج بعد أن توقفوا قليلاً في فيد رحلوا مع أبي الهيجاء فتعرض لهم القرامطة، وأوقعوا بهم مذبحة رهيبة راح ضحيتها معظم الحجاج. كما أُسِرَ عددٌ آخر أبرزهم أبو الهيجاء بن حمدان والي الطريق. كما هلك آخرون جوعًا وعطشًا بعد أن تُركوا في البادية  
 
نجح القرامطة عبر تلك الهجمات في إجبار الخلافة العباسية على الاعتراف بسلطتهم على البحرين. كما دفع العباسيون أموالاً طائلة إلى القرامطة مقابل عدم تعرضهم للحجاج، حيث تم الاتفاق بين الطرفين على أن يأخذ القرامطة الأموال على الحجاج والتجار المارين عبر هذه الطرق مقابل عدم التعرض لهم  
 
3 - غارات القبائل على فيد:
 
ساد الهدوء والأمن معظم أنحاء الجزيرة العربية في ظل الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، والدولة الأموية، وشطر من الدولة العباسية الأولى، غير أنه في أعقاب سيطرة العناصر التركية على مقاليد الأمور في الخلافة العباسية، وامتناع الخلافة عن دفع الأعطيات المعتادة إلى القبائل لضعفها، وقلة الموارد لديها، إضافة إلى التفكك السياسي الذي أدى إلى قيام الدويلات الإقليمية، فقد قامت القبائل منذ القرن الثالث الهجري بشن الغارات على طريق القوافل لتحقيق مكاسب اقتصادية، وقد عانت قوافل الحجاج تلك الغارات، وبخاصة القوافل العائدة من مكة المكرمة والمحملة بالبضائع المتنوعة والأموال، ومن تلك الغارات ما حدث من اعتداء على والي طريق الكوفة - مكة المكرمة علي بن مسرور البلخي، وقتله من قبل جماعة من قبيلة بني أسد قبل وصوله إلى المغيثة   سنة 265هـ / 879م  .  كما شن بعض الأعراب هجومًا سنة 269هـ / 883م   على قافلة للحج بين سميراء وتوز  ،  وحدث مثل ذلك لقافلة حج عائدة في محرم سنة 285هـ / 898م  ،  حيث هاجمها صالح بن مدرك الطائي في الأجفر، وسلب ما فيها من أموال وأمتعة  
 
وعاود الهجوم على الحجاج سنة 287هـ / 900م   بالقرب من معدن بني سليم  ،  وعلى الرغم من فشل هجومه وقتله في المواجهة بينه وبين الحجاج إلا أن أبناءه استمروا في مواصلة الهجوم على الحجاج فخرجوا إليهم سنة 302هـ / 913م وأخذوا أموالهم، واستباحوا حرمهم، ومات من سلم عطشًا  .  وفي سنة 379هـ / 989م تعرض ابن الجراح الطائي للحجاج بين سميراء وفيد، وحاول منازلتهم، فصالحوه على ثلاثمئة ألف درهم وشيء من الثياب، فأخذها، ولم يتعرض لهم  
 
كما تعرضت مدينة فيد نفسها لهجمات من جانب بعض القبائل، ومن ذلك ما حدث سنة 294هـ / 907م حينما حاصر أعراب طَيِّئ القائد العباسي وصيف بن صوارتكين، وهو من أهم القادة الأتراك في عهد الخليفة العباسي المقتدر - وكان قد عُيِّن من قبل الخليفة أميرًا على الموسم، فحوصر في مدينة فيد ثلاثة أيام، ثم خرج إليهم، وقتل عددًا منهم، فرحل وصيف من فيد بمن معه من الحجاج  .  ويظهر أن هجوم القرامطة على فيد في أوائل هذه السنة قد شجع هؤلاء الأعراب من طَيِّئ على هذا الهجوم على القائد العباسي ومن معه من الحجاج. وكان للمنافسة على الحجاز بين الخلافتين العباسية والفاطمية التي بدأت مع قيام الحكم الفاطمي في مصر سنة 358هـ / 968م أثرها في ازدياد اختلال الأمن على طرق الحج العراقية، إذ شجعت الدولة الفاطمية القبائل على شن الغارات؛ لزعزعة مكانة الدولة العباسية، وكان من بين تلك الغارات ما قام به ابن الجراح الطائي السالف الذكر الذي كرر محاولاته سنة 386هـ / 996م بتكليف من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله  
 
ونظرًا لأن أمن فيد له أهميته عند العباسيين فقد كلفوا الحسين بن موسى بتأديب أعراب طَيِّئ في السنة التالية لاعتدائهم على أحد القادة الأتراك، فأخذهم الحسين على حين غرة، فقتل وأسر عددًا من فرسانهم ورجالهم  .  وفي سنة 412هـ / 1021م بعد انقطاع متكرر لركب الحاج القادم من العراق؛ بسبب تدهور أوضاعه الأمنية، وتدمير معظم محطاته، قدمت قافلة من خراسان سيّرها السلطان الغزنوي محمود بن سبتكين  ،  وجعل رئاستها لقاضي قضاته أبي محمد الناصحي بعد أن مده بأموال يقدمها إلى الأعراب مقابل المرور بأراضيهم، ويقول ابن الجوزي   موضحًا ما حدث لهذه القافلة في فيد " فلما بلغوا (فيد) حاصرهم العرب فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا وصمموا على أخذ الحاج. وكان متقدمهم رجل يقال لـه جمّاز بن عدي من بني نبهان، وكان جبارًا فركب فرسه وعليه درعه وبيده رمحه وجال جولة يرهب بها، وكان في جماعة السمرقنديين غلام يعرف بابن عفان يوصف بجودة الرمي فرماه بنبلة فوصلت إلى قلبه فسقط ميتًا وأفلت الحاج وعادوا سالمين"  .  لم يكتف بنو نبهان بالهجوم على قوافل الحجاج، أو أخذ الأموال منهم ليمروا سالمين بأراضيهم، وإنما تعرضت مدينة فيد نفسها لخطرهم على الرغم من عدم وجود حجاج فيها، يحدوهم في ذلك الطمع في الخيرات الموجودة في أسواقها، وكان أبرز ذلك ما حدث سنة 515هـ / 1122م عندما دخلوا المدينة بعد كسر أبوابها ونهبوا بعض ممتلكات أهلها، ويظهر أن الخلافة العباسية على إثر اختلال الأمن في فيد قد نـزعت الولاية عليها من بني نبهان الطائيين مما جعلهم ينتقمون من الخلافة بهجومهم المتكرر على فيد  
 
4 - مظاهر الحضارة:
 
يمكن القول إن موقع مدينة فيد على طريق الحج العراقي أسهم في بروز نشاط اقتصادي واضح لهذه المدينة بشكل خاص وللمنطقة بشكل عام، وقد أدى ذلك إلى استقرار بشري، واستيطان في هذه المنطقة، كما أدى توافر المياه من عيون وآبار، وحفر للقنوات المائية، وخصوبة للتربة، إلى ازدهار الزراعة في المنطقة.
 
وقد بدأت الزراعة في فترة مبكرة كما أشار إلى ذلك كل من البكري  والحربي  ،  إذ تحدثا عن حفر آبار ووجود بساتين للنخيل في صدر الإسلام منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
 
كما أشار إلى ذلك أيضًا الإصطخري   الذي أوضح أن في فيد نخيلاً وزرعًا، وأكد ذلك أيضًا كل من: ابن رسته  ،  وقدامة بن جعفر  ،  ويتضح مما وصفه الجغرافيون أن التمور من أهم المحصولات الزراعية في فيد، بالإضافة إلى بعض المنتجات الأخرى مثل الحبوب  ،  كما كانت الأعلاف المستخدمة غذاءً للماشية من المنتجات الزراعية الرائجة في أسواق فيد نظرًا إلى الحاجة الماسة إليها بسبب كثرة الثروة الحيوانية   في المنطقة ومرور قوافل الحجاج، كما أشار إلى ذلك ياقوت  
 
وتعد الثروة الحيوانية من أبرز الأنشطة الاقتصادية في فيد، وتتكون من الإبل، والأغنام، ويعتمد معظم سكان المنطقة على تربية الماشية، وقد ساعدت على نجاحها كثرة المراعي حول فيد، ومن أبرزها الحمى المعروف عند فيد والمسمى باسمها، وقد أشار الإصطخري إلى مدى اهتمام أهل فيد بالرعي وتربية الماشية   فقال: " ويسكنها بادية من طَيِّئ ينتقلون عنها في بعض أيام السنة للمراعي"
 
وقد أتاح وقوع فيد على طريق القوافل وطريق الحج الكوفي القادم من العراق فرصة لممارسة نشاط تجاري ملموس، فازدهرت تجارتها، وانتشرت فيها الأسواق، وتنوعت السلع، ومن المؤكد أن وقوعها في منتصف طريق الحج الكوفي بين بغداد ومكة المكرمة والمعروف بدرب زبيدة قد عزز تنامي حركة تجارية مميزة أكدها كثير من الجغرافيين  ،  حيث أصبحت فيد نتيجة لذلك من المحطات التجارية المهمة على هذا الطريق والتي تخدم الحجاج والمسافرين وقوافل التجارة  ،  ولذلك فقد اهتمت الخلافة العباسية بهذا الطريق وجعلته المقر الدائم لواليها في مدينة فيد  
 
وقد انتعشت فيد نتيجة وقوعها على طريق الحج الكوفي، وبخاصة عند وصول الحجاج إليها ذهابًا وإيابًا  .  كما كان لموقعها المتوسط بين قبائل المنطقة، وبخاصة طَيِّئ وأسد، أثره الكبير في انتعاش تجارتها، فقد حصل تبادل تجاري واسع بين تلك القبائل  .  وساعد الاستقرار السكاني في مدينة فيد على تعزيز النشاط التجاري، كما كان لازدهار الزراعة، وتربية الماشية، والصناعات المختلفة، أثرها في نمو حركة التجارة الداخلية والخارجية  .  ونظرًا إلى ما تتمتع به مدينة فيد من أمنٍ لوجود الوالي فيها من جهة، وتحصيناتها الجيدة من جهة أخرى، فقد كان الحجاج يتركون بعض أحمالهم عند من يثقون به من أهلها، ويأخذونها عند عودتهم من الحج، كما أشار إلى ذلك المقدسي   وابن جبير  .  وأشار ابن بطوطة إلى ذلك بقوله: "وهنالك يترك الحجاج بعض أزوادهم حين وصولهم من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى فإذا عادوا وجدوه"  أما أبرز السلع المعروضة في المدينة فهي المواشي من إبل وأغنام، ومنتجاتها من الألبان والصوف والسمن، كذلك كان العسل من السلع الرائجة، والأعلاف والتمور والحبوب  .  كما اشتهرت فيد بنوع من الحلوى يسمى الفالوذج  ،  والكعك حتى ضرب المثل بجودته وحسن طعمه  . 
وقد أسهم الحجاج في النشاط التجاري لمدينة فيد والمناطق المحيطة بها بما يجلبونه من سلع عند قدومهم إلى الحج، ومنها شقق الحرير الخام فيبيعونها على أهل فيد وسميراء وغيرها من المناطق التي يمرون فيها وهم في طريقهم إلى مكة المكرمة، كما أشار إلى ذلك ابن جبير  .  وفي رحلة العودة يجلب الحجاج معهم بعض السلع المعروضة في أسواق مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد أشار ابن الجوزي إلى أنهم يجلبون معهم في طريق العودة الثياب المصرية والأمتعة اليمنية  .
كما أسهمت سميراء أيضًا، وهي من المنازل المهمة على طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة، في حركة التبادل التجاري مع الحجاج  . 
 
ونتيجة لبروز نشاط اقتصادي متزايد في مختلف المجالات من زراعة وتجارة ورعي فقد ازداد عدد سكان مدينة فيد والمناطق المحيطة بها، واستقرت فيها بعض بطون قبيلتي طَيِّئ وأسد؛ وبخاصة بنو نبهان من طَيِّئ، وآل أبي سلامة من أسد التي تعد أكثر العناصر السكانية في المدينة في تلك الفترة  .  وقد تعددت الأنشطة الاقتصادية لسكان فيد وما يحيط بها، وبالإضافة إلى ما سبق هناك بعض الحرف والصناعات التي مارسها بعض سكان مدينة فيد  .  وقد أشار ابن بطوطة  .  إلى نشاط سكان فيد بقوله: "وصبحنا حصن فيد، وهو حصن كبير في بسيط من الأرض يدور به سور وعليه ربض، وساكنوه عرب يتعيشون مع الحاج في البيع والتجارة" وفي موضع آخر يقول: "وهنالك لقينا أميري العرب، (فياض وحيار)، وهما ابنا الأمير مهنا بن عيسى، ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة، فظهر منهما المحافظة على الحاج والرحال والحوطة لهم، وأتى العرب بالجمال والغنم فاشترى منهم الناس ما قدروا عليه".
 
لقد كان لدخول أهل فيد في الإسلام أثر كبير في نيلهم حظًا وافرًا من العلم؛ وبخاصة العلوم الشرعية، وقد تمتعت مدينة فيد بمكانة علمية بارزة منذ القرن الأول للهجرة، وأصبح مسجدها الجامع موئلاً للعلم والعلماء من سكان فيد خاصة وبلاد الجبلين عامة ممن يفدون إليها لتلقي العلم على يد علمائها  .  وقد تتلمذ بعض من علمائها على يد علماء المدينة المنورة حيث رحلوا إليها لتلقي العلم ومن هؤلاء من أبناء الصحابة والتابعين: أبوهلال الطائي يحيى بن حيان (ت 80هـ = 699م)   وعروة بن زيد الخيل (الخير) (ت 80هـ = 699م) وأخوه مكنف بن زيد الخيل (الخير) وقد أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وشارك في قتال المرتدين  .  ومن الصحابة من بني طَيِّئ الذين قدموا المدينة، وكان لهم شرف الصحبة وهب بن خنبش الطائي وهلب الطائي  .  وقد نـزل فيد علماء قدموا من بلاد مختلفة، وحدَّثوا بمسجدها الجامع، ومن هؤلاء محمد بن جعفر المحدث الذي قدم من الكوفة  ،  ومن علماء فيد المنسوبين إليها محمد بن يحيى بن ضريس الفيدي، ومحمد بن جعفر بن أبي مواتية الفيدي، وأبو إسحاق عيسى بن إبراهيم الكوفي الفيدي، وغيرهم  
 
ازداد النشاط العلمي في فيد خلال العصر العباسي حيث اهتم أبناؤها بالعلم، فرحل بعضهم لطلب العلم في مراكزه المعروفة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والعراق والشام وغيرها، ويمكن القول إن طبيعة المنطقة ووقوعها في منطقة متوسطة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة من جهة والكوفة وبغداد في العراق من جهة أخرى، وحرص أهلها؛ وبخاصة من قبيلة طَيِّئ على طلب العلم منذ ما قبل الإسلام، كل هذا هيأ لها مكانة علمية مرموقة في جزيرة العرب، وغدا مسجدها الجامع مركزًا علميًا رائدًا للعلماء وطلاب العلم من أهل فيد والمناطق المجاورة لها  
 
إضافة إلى ذلك فإن المكانة السياسية والتطور الحضاري اللذين كانت عليهما فيد خلال العصر العباسي قد وفّرا أجواء علمية مناسبة. ومن أبرز العلماء الذين كانت لهم مكانة علمية في فيد خلال العصر العباسي محمد بن جعفر بن أبي مواتية الكلبي العلاف المعروف بالفيدي، وهو من المهتمين بالحديث النبوي الشريف، ذكره الخطيب البغدادي  ،  وأشار إلى أن أصله من بغداد واستقر في فيد، و (ت 236هـ = 850م) وقيل 231هـ / 846م ومن الذين استوطنوا فيد محمد بن الطفيل النخعي الكوفي (ت 222هـ = 836 / 837م) ومن العلماء الذين قدموا من الكوفة ونـزلوا فيد محمد بن يحيى بن الضريس الكوفي الفيدي السابق الذكر درس الحديث النبوي الشريف (ت 249هـ = 863م)  .  وينسب إلى فيد علماء آخرون كثيرون
 
ومن أبرز المهتمين بالروايات التاريخية والي فيد محمد بن عبدالملك الفقعسي الأسدي، وقد أخذ عنه المؤرخون كثيرًا من الروايات عن قبيلة بني أسد، كما كان له إلمام بتحديد المواضع الجغرافية والبلدانية وتاريخ نشأة بعضها؛ وبخاصة المناطق القريبة من فيد، ويمتاز الفقعسي من خلال ما أورده ابن النديم وغيره بسعة اطلاعه ودقة رواياته؛ وبخاصة المعلومات المتعلقة بجزيرة العرب، كما امتاز بنظم الشعر، ومن آثاره مصنفات تاريخية وأدبية في مآثر بني أسد وأشعارها، وله ديوان شعر يقع في مئة ورقة  .  ومن رواة الأخبار داود بن عقاب الفيدي، وقد اعتمد عليه أحد المؤرخين وهو محمد بن علي بن الحسين الطالبي فيما كتبه عن القرامطة ونقله عن النويري، وبخاصة ما يتصل بأخبار القرامطة وهجومهم على فيد سنة 294هـ / 907م وقد وصفه محمد بن علي الطالبي بالنبل والصدق 
 
ب - فدك: 
 
تقع فدك (الحائط حاليًا) إلى الجنوب الغربي من مدينة حائل بنحو 250كم  .  وقد ورد في تعريف فدك في المصادر قولان: أحدهما أنه مأخوذ من قولهم: فدكت القطن تفديكًا أي نفشته  .  والقول الثاني أنها سميت بفدك بن حام وكان أول من نـزلها  .  والنسبة إليها فدكي  .  قال عنها ياقوت: هي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة  .  بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى فدك سنة ست للهجرة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه  .  وأفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع صلحًا  .  فقد أرسل أهلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك فكانت خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم  ؛  وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة. وهي التي قالت فاطمة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلنيها، فقال أبوبكر رضي الله عنه أريد لذلك شهودًا، ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده - لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين - أن يردها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما يتنازعانها، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب إلى عامله في المدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة رضي الله عنها، فكانت في أيديهم في أيام عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي يزيد بن عبدالملك قبضها فلم تزل في أيدي بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القيّم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما ولي المهدي بن المنصور الخلافة أعادها إليهم، ثم قبضها موسى الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل وقرئ على المأمون  .  فلما استخلف جعفر المتوكل ردّها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبدالعزيز ومن بعده من الخلفاء  
 
ومن رجالاتها: مسعر بن فدكي، وكان من أشجع الناس، إذْ شهد المشاهد مع علي رضي الله عنه  ،  وأبو عبدالله محمد بن صدقة الفدكي، كما سمع مالك بن أنس  .  في سنة 231هـ / 846م هاجم بغا الكبير القائد التركي الأعراب في نواحي المدينة وتوجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان يغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجّهَ إليهم رجلاً من فزارة يعرض عليهم الأمان ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته وزين لهم الهرب فهربوا، ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرًا منهم بقوا فيها، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها؛ فظفر ببعضهم، وأستأمن بعضهم. وهرب الباقون مع رأس لهم يقال لـه الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء؛ ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة  
وتعد فدك من أهم المواقع الأثرية في منطقة حائل وأكبرها، حيث تضم عددًا من القلاع والحصون والقصور المبنية بالأحجار السوداء،  وتحيط بها من الجهتين الشمالية والجنوبية مرتفعات الحرة التي تنتشر على واجهات صخورها، وعلى الأحجار المتساقطة حولها مجموعة من الكتابات الكوفية، وقد كانت فدك محاطة بسور ضخم شيد من الأحجار السوداء، ولكنه اندثر، ولم يبق منه سوى أساساته التي شيد عليها السور القائم حاليًا الذي يعود بناؤه إلى العصور الإسلامية المتأخرة  
 
 
شارك المقالة:
36 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook