الدولة السعودية الثانية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الدولة السعودية الثانية في المملكة العربية السعودية

الدولة السعودية الثانية في المملكة العربية السعودية.

 
 
خلَّف سقوط الدولة السعودية الأولى آثارًا وخيمة على الجزيرة العربية عامة، وعلى إقليم نجد خاصة، ولا سيما أن أهداف محمد علي باشا - ومن ورائه الدولة العثمانية - لم تكن الاستيلاء على البلدان النجدية وفرض الحكم المباشر عليها فحسب، بل محاولة طمس الهوية التي قامت الدولة السعودية على أساسها، ووأد أي طموح لدى سكان هذه البلاد في إقامة كيان سياسي يجمعهم. إن الحالة التي سادت البلدان النجدية في هذه الفترة هي حالة مأساوية وحرجة، فقد اجتاحتها موجة من الفتن والفوضى، وحلت بها الاضطرابات، وانعدم الأمن، ورخصت الأرواح  .  وقد سجل التاريخ صورًا مؤلمة لما آلت إليه هذه البلاد وأحوال سكانها سياسيًا واجتماعيًا.وكان لسقوط الدولة السعودية الأولى أثر سلبي على الدعوة الإصلاحية التي انتشرت بمساعدة أئمة هذه الدولة، ولما كان التأييد الذَي قدمته الدعوة للدولة من أهم الأسباب التي دفعت محمد علي باشا إلى الانتقام من علماء الدعوة، وبخاصة البارزون منهم، فقد قتل كثيرًا منهم، ومن أشهرهم الشيخ سليمان بن عبدالله حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأخوه علي  ،  كما عُذِّب منهم آخرون، ومن أشهرهم عالم المدينة الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي  . ومن الناحية السياسية؛ كان للفراغ السياسي الذي حدث نتيجة اعتقال أبرز زعماء آل سعود وتواري عدد آخر منهم، وقَتْل أمراء بعض البلدان النجدية وتعذيبهم؛ أثر مباشر في الأوضاع السياسية في إقليم نجد؛ فقد عاد معظم رؤساء البلدان السابقين محاولين استرجاع نفوذهم على تلك البلدان، ويعني هذا العودة إلى عصر الإمارات المتناحرة. كما أن انسحاب إبراهيم باشا بقواته عن البلدان النجدية تاركًا بعض الحاميات الصغيرة دون أن يضع نظامًا إداريًا تسير عليه البلاد؛ كان سببًا آخر للتدهور السياسي الذي حل في إقليم نجد، ومن ثَمَّ أدى إلى تدهور الأمن، وتفشي الاضطرابات، وتجدد الضغائن بين الزعماء المحليين، وبخاصة بين المعارضين للوجود العثماني في البلاد وبين أولئك الذين اقتنعوا بولائهم لإبراهيم باشا أو اضطروا إليه  .  وعلى الرغم من وجود بعض الحاميات التي أبقاها إبراهيم باشا؛ إلا أن هذه القوات لم تستطع السيطرة على الوضع، على الرغم مما عُرف عن بعضهم من القسوة والشدة  .  وعلى مستوى الدول المجاورة؛ كان لسقوط الدولة السعودية الأولى تأثير سلبي مباشر فيها، فقد تجددت المنازعات بين تلك البلاد، وخصوصًا تلك التي لها علاقة مباشرة مع الدولة السعودية مثل عمان، كما أن نشاط محمد علي باشا كان فرصة لبريطانيا لكي تتدخل في منطقة الساحل العُماني؛ ما كان له تأثير في استقلال هذه الدول لاحقًا  .وفيما يتعلق بالآثار الاجتماعية والاقتصادية؛ كان للحملات المتواصلة التي شنها محمد علي باشا على إقليم نجد، وما ترتب عليها من تخريب للدرعية، وقطع نخيلها، وهدم أسوار البلدان النجدية الأخرى؛ أثر مباشر في الحياة الاجتماعية للسكان، فقد تشرد أكثرهم، وقلت المحصولات، وارتفعت الأسعار، ونشط قُطَّاع الطرق، وكثر العاطلون والمعوقون  . ويمكن تلخيص الآثار التي حلت بنجد من جرَّاء تلك الحملات بما ذكره ابن بشر بقوله:"... وانحل فيها نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة، وعُمل بالمحرمات والمكروهات جهرًا، وليس للطاعات ومن عمل بها قدرا، وجُرَّ الرباب والغناء في المجالس، وسفت الذواري على المجامع والمدارس، وعُمرت المجالس بعد الأذان للصلاة، واندرس معرفة الأصول وأنواع العبادات، وسُلَّ سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في جوف بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شرر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد... "  . وقد وقعت بعد زوال الدولة السعودية الأولى أحداث تاريخية هيأت لقيام الدولة السعودية الثانية يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:
 

عوامل قيام الدولة السعودية الثانية

 
 

كان لاختفاء الدولة السعودية الأولى عن الواجهة السياسية للجزيرة العربية مع ما تركته من انطباع حسن لدى السكان دور كبير في بقاء ذكرها حيًا ينتظر من يعيد إليه جذوته. وعندما أراد الله لهذه الدولة الانبعاث من جديد قيَّض لها من قام بهذه المهمة في أحلك الظروف.والواقع أنه خلال هذه الفترة الانتقالية (القصيرة في عمر الزمن) تغيرت موازين القوى التي يهمها أمر قيام الدولة السعودية الثانية، فقد تولى محمد بن مشاري بن معمر إمارة الدرعية في أواخر عام 1234هـ / 1819م مستفيدًا من الفراغ السياسي الذي تركه ترحيل بعض زعماء آل سعود إلى مصر، وتخفِّي من بقي منهم، كما شجعه على ذلك كونه سليل أسرة آل معمر التي كانت تحكم العيينة قبل قيام الدولة السعودية الأولى، وكونه يمت بصلة النسب إلى آل سعود (عن طريق خاله الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود)، وبما يملكه من أموال وأسلحة ومزارع   مما جعله يدعو قادة البلدان إلى مبايعته.وعلى الرغم من أن ما قام به ابن معمر يُعد أولى المحاولات التي قامت في نجد لإحياء الدولة بزعامة شخص من خارج الأسرة السعودية؛ إلا أنه اعتمد بصورة كاملة على موروثات الدولة السعودية ليضمن لنفسه النجاح، فعلى الرغم من أن ابن معمر كان يمتلك كثيرًا من الأموال والأسلحة؛ إلا أن هذه المؤهلات لم تعد كافية بعد مجموعة من المتغيرات السياسية والدينية التي شهدتها نجد خلال السنوات الثمانين التالية لبداية حكم الدولة السعودية الأولى؛ فقد نشأ جيل جديد تتلمذ على أيدي علماء الدعوة الإصلاحية، ونشأ في كنف دولة اتخذت الجهاد أساسًا لقيام الدولة ونشر الدعوة وعدم الاقتصار على القوة المادية والزعامة القبلية.لم تغب هذه المبادئ عن ذهن محمد بن مشاري بن معمر وهو يستعد لإقامة الدولة في نجد؛ ولذلك بنى مشروعه على فكرة أنه يمتُّ بصلة المصاهرة إلى آل سعود، إذ إن عبدالعزيز وعبدالله ابنَي محمد بن سعود خالان له  .  كما أنه جعل الدرعية - عاصمة السعوديين الأولى - مقرًا لدولته الجديدة بدلاً من العيينة مقر إمارة أسرته؛ لما لهذه المدينة من رمزية تاريخية لدى المجتمع ولما تحمله هذه الخطوة من دلالات استمرار الولاء للدولة السعودية. وكانت استجابة السكان تدل على رغبتهم في الالتفاف حول قيادة تضمن لهم العيش الآمن في ظل دولة موحدة قوية  . وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي قام بها ابن معمر لإقامة الدولة فور عودته إلى الدرعية في أواخر عام 1234هـ / 1819م، وانضمام بعض البلدان النجدية إليه؛ إلا أن الشكوك بقيت قائمة حول أهداف حركته التي يراها بعضهم امتدادًا للزعامات السلبية التي كانت قائمة في نجد قبل قيام الدولة السعودية الأولى، وهو أمر له مخاطره بالنسبة إلى الزعامات الأخرى؛ وهذا ما دفع بعضهم إلى الاستنجاد ببني خالد في الأحساء للحيلولة دون تفرد ابن معمر بالحكم في نجد. والحقيقة أن زعماء بني خالد كانوا أكثر حذرًا من انبعاث الدولة في نجد من جديد، وأن يجدوا أنفسهم مسلوبي الاستقلال؛ لذلك هبَّ زعيم بني خالد في ذلك الوقت ماجد بن عريعر إلى نصرة المعارضين لابن معمر من أهل نجد، وقَدِم إليها لهذا الغرض، وانضم إليه في الطريق زعماء الخرج والرياض وحريملاء، ثم شرع يحاصر الموالين لابن معمر في منفوحة؛ فاضطروا إلى مصالحته  .  والمتابع لهذه المرحلة من تاريخ نجد يدرك أن حملة زعيم بني خالد أظهرت مدى قدرة ابن معمر على احتواء الموقف، إذ سرعان ما هداه تفكيره إلى استقبال الحملة بالود والحفاوة، وأسبغ على قادتها الهدايا، كما بادر إلى طمأنة ماجد بن عريعر بأن هدفهما واحد وهو خدمة السلطان العثماني، وبذلك تخلص بذكاء من الخطر الذي كاد يحدق به  . وعلى الرغم من أن هذه المحاولة لم تلقَ النجاح الذي أَمَّل؛ بسبب عداوة بعض البلدان النجدية له، وبخاصة زعماء حريملاء والخرج والرياض؛ إلا أن كثيرًا من الأهالي في البلاد الأخرى وجدوا قيام هذه الدولة فرصة لاستتباب الأمن والقضاء على الفتن؛ على المدى المنظور على الأقل.كان زعماء آل سعود - الذين فرُّوا من وجه إبراهيم باشا وعلى رأسهم الأمير تركي بن عبدالله وأخوه زيد - يشاطرون الأهالي رغبتهم في دعم ابن معمر؛ ما أعطى جهوده دفعة إلى الأمام، واستطاع من خلالها استعادة بعض البلدان النجدية المترددة إلى حكمه، وأصبح هو الحاكم الجديد لدولة محدودة المساحة، قليلة الإمكانات، ضعيفة التأييد  . وقد تطورت الأمور السياسية أمام ابن معمر سلبيًا وبشكل سريع، فلم يمضِ على حكمه أكثر من ستة أشهر حتى ظهر وارث شرعي للدولة السعودية هو مشاري بن سعود   الذي وصل إلى الدرعية في منتصف عام 1235هـ / أوائل عام 1820م. حاول ابن معمر مجابهة مشاري، لكنه أدرك ضعف إمكاناته وكثرة المؤيدين لمشاري؛ فاضطر إلى التنازل له عن الحكم على الرغم من عدم اقتناعه  .  في حين تذكر الوثائق العثمانية أن ابن معمر عندما سمع بهروب مشاري من معسكر قوات محمد علي استدعاه إلى الدرعية، وفي الطريق لقي ترحيبًا من البلدان التي مر بها  .  وأيًا كان الأمر فقد تمكن الأمير مشاري بن سعود من الإمساك بزمام الأمور، وبخاصة بعد أن لقي تأييدًا من عدد من أفراد آل سعود الذين كانوا قد تواروا في بعض البلدان النجدية عندما سقطت الدرعية، كما جاءته الوفود مبايِعةً من بلاد سدير، والوشم، والعارض، والمحمل... وغيرها من إقليم نجد.استقام الأمر لمشاري بن سعود في الدرعية، فقد رحب به الأهالي، ودانت له البلدان النجدية؛ لمقدرته، وتقديرًا لمكانة أسرته التي لاقت حملات شرسة من قِبَل الجيوش الخارجية المتعاقبة، بل إن معظم المناطق الممتدة بين المدينة والأحساء أصبحت تدين له بالولاء، وتؤكد ذلك الرسائل المتبادلة بين السلطان العثماني ومحمد علي باشا  . لم يجد مشاري بن سعود صعوبة في قيادة البلاد، فتجمَّعت حوله وفود البلدان النجدية التي قَدِمت لمبايعته، وكذلك أعضاء أسرته الذين عادوا إلى الدرعية مثل عمه عمر بن عبدالعزيز وأبنائه عبدالله ومحمد وعبدالملك ومشاري بن ناصر وحسن بن محمد بن مشاري، وكان ممن عاضده وآزره أحد أمراء آل سعود من الفرع الثاني من أبناء مؤسس الأسرة السعودية محمد بن سعود؛ وهو تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود الذي سجل بموقفه هذا إضافة مهمة لمشاري بن سعود، وقد عيَّنه الأمير مشاري بن سعود أميرًا على الرياض  . وعلى الرغم من هذا النجاح الذي حققه مشاري إلا أن الدولة العثمانية أزعجتها المحاولات التي قام بها زعماء آل سعود في سبيل إحياء دولتهم، ويظهر ذلك واضحًا من خلال الاتصالات والرسائل المتبادلة بين السلطان العثماني وولاته في كل من مصر والعراق والشام، وكذلك مع زعماء بني خالد، وكان محور هذه الاتصالات هو التخطيط للقضاء على هذه الدولة الناشئة، وإن اختلفت الأساليب والمواقف  .كان محمد علي باشا والي مصر بصفة خاصة قلقًا من المحاولات الجديدة التي ترمي إلى إحياء الدولة السعودية بعد أن كان يتفاخر بالقضاء عليها، وكان يظن أن محصِّلة الحملات التي أرسلها إلى الجزيرة العربية كفيلة باستحالة انبعاثها من جديد، ولكن ظنَّه خانه. وقد كان محمد علي باشا يتابع تطور الأوضاع في نجد خلال الفترة القصيرة التي أعقبت خروج إبراهيم باشا، وقد طلب من رئيس حامية قوات محمد علي في الحجاز إرسال القائد آبوش آغا مع فرقة من الجيش إلى الدرعية للوقوف على الوضع الجديد في نجد، وخصوصًا التحري عن أهداف ابن معمر. وقد طمأن ابن معمر آبوش بأن ما قام به لا يعدو أن يكون تحت مظلة الدولة العثمانية؛ فأيَّده آبوش في مسعاه، وأقرَّه على إمارة المنطقة  .لم يتوقع محمد علي باشا أن تتطور الأمور بشكل سريع لتعيد الحكم إلى أسرة آل سعود ممثَّلةً في الأمير مشاري بن سعود خلال مدة وجيزة من سقوط دولتهم الأولى، فأخذ يخطط لإسقاط الحكم السعودي بمبرر الولاء للسلطان العثماني. وفي المقابل نجده يتخذ سياسة الملاينة مع زعماء بني خالد، بل إنه أمر قواد جيشه في المنطقة بالتعاون مع زعماء الأحساء ضد أي محاولة من جانب آل سعود للعودة إلى الحكم، وكانت استجابة بني خالد سريعة وحاسمة؛ ليس فقط من أجل التعاون مع والي مصر، وإنما أيضًا لخوفهم من فقد زعامتهم، خصوصًا أن مشاري بن سعود أخذ يفكر جِدِّيًا في ضمِّ الأحساء لكونها إحدى المناطق التابعة للدولة السعودية الأولى التي ورث حكمها  .أما بالنسبة إلى محمد بن مشاري بن معمر فقد ندم على تنازله عن الحكم لمشاري بن سعود، ولم يستطع كبح جماح طموحاته إلى الزعامة، فأخذ يخطط لاستعادة الحكم من مشاري بن سعود، إلا أنه يعلم أن أي تصرف منه سيكون كافيًا لإثارة الشكوك حول أهدافه. اختار ابن معمر بلدة سدوس مكانًا للتخطيط لاستعادة الحكم، وذهب إلى هناك بزعم الراحة والاستشفاء، ومن هناك اتجه إلى حريملاء حيث سانده زعماؤها، وقد حقق تقدمًا في جمع الأنصار  ،  ثم كَاتَبَ قائد حملة قوات محمد علي آبوش آغا الموجود في عنيزة شارحًا له أهداف حملته، وعندما أدرك ابن معمر أنه أصبح في وضع قوي قاد الجميع ودخل الدرعية، وقبض على مشاري بن سعود، ونقله إلى بلدة سدوس حيث سُجِن فيها، ثم اتجه هو إلى الرياض واستولى عليها؛ ما اضطر أميرها تركي بن عبدالله إلى مغادرتها. وبذلك استعاد محمد بن مشاري بن معمر النفوذ في نجد مرة أخرى  . وكان سوء تقدير ابن معمر للظروف وغدره بمشاري بن سعود بداية النهاية لحكمه؛ إذ فقد بسبب ذلك ما كان لديه من سُمْعة خلال الفترة التي حكم فيها إقليم نجد مؤيَّدًا من كثير من الأهالي والزعماء وبخاصة من آل سعودر

شارك المقالة:
42 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook