الدعوة السلفية بالرياض في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الدعوة السلفية بالرياض في المملكة العربية السعودية

الدعوة السلفية بالرياض في المملكة العربية السعودية.

 
لم تبذل الدولة العثمانية جهدًا في إرسال الحملات العسكرية لإيصال نفوذها وسلطتها إلى نجد أسوةً بالمناطق الساحلية في الجزيرة العربية، ولذلك استمرت هذه المنطقة تعاني من الفراغ السياسي، فعمت الفوضى، وتقطعت السبل، وفقد الأمن، ويمكن تلخيص الأحوال السياسية لهذه المنطقة وما هي عليه من فرقة وتناحر دائمين، في مقولة كان يرددها الناس ألا وهي: (نجد لمن طالت قناته) أي عصاه، والمقصود بذلك أن القوة هي الفيصل في العلاقات والمنازعات بين مختلف فئات المجتمع، وكانت العصبية القبلية سمة من سمات ذلك العصر، فلكل عشيرة إمارة، ولكل قرية مشيخة، ولكل حاكم رجاله، أو جيشه المصغر الذي يعتمد عليه في الدفاع عن بلدته أو الهجوم على جيرانه عندما يرى ضعفًا من أولئك الجيران.
 
بقيت الصراعات القبلية على أشدها، وكذلك بين البلدان والقرى، بل وحتى داخل البلد الواحد بين فئات المجتمع المتنافسة، ولم تسلم الأسر الحاكمة نفسها من التنافس، فيقتل الابن أباه أو عمه أو قريبه، وقد وصل الحد في بعض الأحيان أن قسمت بعض القرى الصغيرة في منطقة الرياض إلى إمارتين أو أكثر. وعند استعراض أحد كتب الحوليات النجدية التي لا تورد إلا النـزر اليسير من الأخبار، فإن حوادث القتل والمنازعات التي لا نهاية لها تطغى على غيرها من الأحداث الأخرى وتذهل، وللتدليل على هذا الوضع المأساوي، لا توجد أفضل من رواية وردت عن ابن بشر في إحدى سوابقه لعام 1120هـ / 1708م؛ ففي هذه السنة قُتل أمير بلدة التويم من إقليم سدير،  وتولى القاتل الإمارة، ولكنه لم يمكث فيها طويلاً، إذ تدخل أهل بلدة مجاورة تدعى حرمة وساروا إلى التويم وقتلوا القاتل ونصبوا في البلد أميرًا، واستمر مسلسل القتل وقُتل هذا الأمير (الثالث) وتولى الإمارة شخص آخر، ثم قتل على يد أربعة أشخاص من رؤساء البلد، وبعد هذه المآسي لم يستقر الوضع السياسي في تلك القرية بل تأزم، لأن هؤلاء الأربعة اختلفوا حول من يتولى الإمارة، ويكمل ابن بشر روايته قائلاً: "فقسموا البلد أربعًا كل واحد شاخ في ربعها، فسموا المربوعة أكثر من سنة، وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها" 
 
من ناحية أخرى، فإنه في الوقت الذي كانت فيه العلاقات السياسية والوضع السياسي في كثير من البلدان مضطربة، إلا أن هناك بعض التطورات الإيجابية التي مرت بها المنطقة في تلك الفترة التي سبقت ظهور الدعوة السلفية، كان من أهم التطورات الإيجابية التي شهدتها نجد بشكل عام، ومنطقة الرياض بشكل خاص، نشأة بلدان جديدة، وكذلك بعض التطورات في الحياة العلمية، فشهد مطلع القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) نـزوح أسرة آل مدلج من أشيقر، واستوطنوا بلدة التويم في إقليم سدير وأعادوا تعميرها، وبعد ما يقارب السبعين عامًا انتقل أفراد من الأسرة نفسها واستوطنوا بلدة حرمة وأعادوا تعميرها  
 
وبغض النظر عن أسباب هجر الناس لمواطنهم الأصلية، إلا أن ظاهرة تعمير البلدان واستيطانها أو إعادة استيطانها تعد خير دليل على زيادة عدد السكان، وعلى التغيرات الاجتماعية التي مر بها مجتمع هذه المنطقة في تلك الفترة التاريخية، استمرت هذه الظاهرة كذلك في القرن التاسع الهجري / الرابع عشر الميلادي، فعمرت بلدة المجمعة في مطلع القرن، وفي منتصفه عمرت بلدتا الدرعية والعيينة  ،  وقد قُدر للدرعية أن تلعب دورًا أساسيًا في تاريخ منطقة الرياض الحديث، وتواصلت هذه الظاهرة خلال القرنين العاشر والحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، خصوصًا في منطقة الرياض، إذ ظهرت بلدان جديدة، مثل: حريملاء، والحصون، وروضة سدير، والقارة، والقرينة، وجلاجل، والغاط، وحوطة بني تميم، وشقراء، والحرِّيق، والقويعية
 
أما عن الحياة العلمية فقد شهدت تلك الفترة انتعاشًا علميًا تمثل في ظهور بعض المراكز العلمية المهمة في منطقة الرياض، وبشكل أوضح في تنامي أعداد العلماء وانتشارهم في البلدان، وتدل بعض الوثائق الشرعية التي وصلت إلينا من القرنين الثامن والتاسع الهجريين / الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين مثل وثيقة وقف صبيح المشهورة   في بلد أشيقر،  على وجود حياة علمية، وعلماء تمكنوا من كتابة مثل هذه الوثيقة المهمة، وشهدت منطقة الرياض، في فترة ما قبل الدعوة السلفية، ظهور عدد من المراكز العلمية التي كان لها دور مهم في نشر العلم في هذه المنطقة.
 
تصدرت بلدة أشيقر المراكز العلمية، ليس في منطقة الرياض فحسب، بل في نجد بشكل عام، ولعل ذلك راجع إلى كونها من أقدم البلدان النجدية، كما أن وجود بعض الأسر العلمية بها، مثل: آل مشرف وآل بسام وآل إسماعيل وآل قصير، وموقعها على طريق الحج والقوافل التجارية منح أبناءها فرصًا أكثر لطلب العلم، وذلك إما داخليًا في البلدة نفسها، أو الأخذ عن بعض العلماء عند مرورهم بها في طريقهم إلى الحجاز، أو بمرافقة القوافل التجارية ليتعلموا خارج الجزيرة العربية؛ وبخاصة في العراق والشام 
 
وقد تميزت بلدة أشيقر بكونها أكثر المراكز العلمية استقطابًا لطلبة العلم، وكذلك بتفوقها في عدد العلماء وكثرة مصنفاتهم العلمية، واستعدادهم للهجرة والعمل بوصفهم قضاة في بلدان أخرى.
 
أما المركز العلمي الثاني في منطقة الرياض، فهو بلدة مقرن (لم يبدأ استخدام اسم الرياض بعد) التي وجد بها عدد من العلماء في تلك الفترة التاريخية، ويعود الفضل في بروز مقرن بوصفها مركزًا علميًا إلى نموها السياسي بعد توحدها مع معكال، وإلى هجرة الأخوين عبدالله وعبدالرحمن آل ذهلان، وقد تلقى عبدالله بن محمد بن ذهلان تعليمه الأولي في العيينة مسقط رأسه، ثم سافر لطلب العلم في مقرن (الرياض) على يد قاضيها الشيخ أحمد بن ناصر بن مشرف، وبعد وفاته أسندت مهمة القضاء في مقرن إلى الشيخ عبدالله بن ذهلان فذاع صيته وكثر طلابه، أما أخوه عبدالرحمن فقد درس في العيينة، ثم شد رحاله لطلب العلم في دمشق، وبعد عودته لحق بأخيه في مقرن، وجلس للتدريس فيها إلى أن توفي مع أخيه عبدالله في وباء عم منطقة الرياض سنة 1099هـ / 1687م  
 
احتلت العيينة  المركز العلمي الثالث في منطقة الرياض، ومع أن هذه البلدة كانت من أحدث المراكز العلمية نشأةً، إلا أنها تمكنت من إحراز بعض الإنجازات العلمية المهمة، ويمكن إرجاع ذلك إلى أن هذه البلدة تمكنت من استقطاب طلاب العلم، خصوصًا من أشيقر، وذلك للدراسة على عالمها المشهور الفقيه العلامة أحمد بن يحيى بن عطوة، وكان قد درس على مشاهير علماء الشام في مدرسة أبي عمر الشهيرة بدمشق  .  وكان للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي الذي شهدته العيينة أثره في استقطاب العلماء، ومن أبرزهم أحمد بن محمد البسام وسليمان بن علي بن مشرف (جد الشيخ محمد بن عبدالوهاب) الذي وصف بأنه فقيه الديار النجدية في ذلك الوقت  .  ويبدو أن هذه الظروف الجيدة شجعت على انتقال أسرة آل مشرف من أشيقر إلى العيينة  ،  وهي أسرة علمية برز منها عدد من العلماء في موطنها الجديد ما مهد لظهور الدعوة الإصلاحية فيما بعد
 
كانت هذه البلدان الثلاثة أبرز المراكز العلمية في منطقة الرياض في تلك الفترة التي سبقت ظهور الدعوة السلفية، ولكن هذا لا يعني أن الحركة العلمية كانت مقصورة على تلك المراكز، بل لوحظ انتشار العلماء في مناطق أخرى، مثل: منطقة سدير.
 

بداية الدعوة السلفية

 
تنسب الدعوة السلفية الإصلاحية في شبه الجزيرة العربية إلى مؤسسها الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف، فهو ينتمي إلى أسرة آل مُشَرَّف، وهي فرع من آل وهبة أحد بطون قبيلة تميم المشهورة  .  ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العيينة سنة 1115هـ / 1703م، ونشأ بها، وتربى في بيت علم وفضل، فقد كانت أسرته أسرةً علميةً شهيرةً في موطنهم الأصلي بلدة أشيقر، ثم ازدادت شهرةً في موطنها الجديد، بعد هجرة جده الشيخ سليمان بن علي إلى تلك البلدة.
 
وبالإضافة إلى ما لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب من استعداد فطري لطلب العلم، فقد تهيأ له ما لم يتهيأ لكثير من أقرانه في ذلك الوقت، فمن المعلوم أن معظم الأسر كانت لا تستغني عن جهود أبنائها لكسب لقمة العيش، وذلك بالعمل في الفلاحة وتربية المواشي أو الحرف والصناعات اليدوية، أما الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد كانت أسرته ذات ثقل اجتماعي وعلمي انعكس أثره إيجابيًا على بقية أفرادها، فمكنهم من تفريغ أبنائهم لطلب العلم، ومما لا شك فيه أن البيئة العلمية التي نشأ فيها الشيخ أثرت في حياته ومن ثم رغبته في طلب العلم، لقد برز من أسرته عدد من العلماء منهم: جده الشيخ سليمان بن علي، ووالده الشيخ عبدالوهاب بن سليمان، وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان، وأخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب، وابن عمه الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم، وجده لأمه الشيخ محمد بن عزاز، وخاله الشيخ سيف بن محمد بن عزاز 
 
في هذا المحيط العلمي نشأ وترعرع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فلم يجد صعوبة لبدء مشواره العلمي، فقد حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه العاشرة من عمره، وبدأ في طلب العلم على يد والده الشيخ عبدالوهاب بن سليمان قاضي العيينة، قبل أن ينتقل منها إلى قضاء حريملاء، كما تعلم كذلك على والده وعلى غيره من علماء العيينة القراءة والكتابة واتجه إلى دراسة العلوم الشرعية والعربية، فدرس التفسير والحديث والفقه، وقد أعجب والده بذكائه وسرعة فهمه وتحصيله، أورد حسين بن غنام - المؤرخ المعاصر لظهور الدعوة - رواية على لسان الشيخ عبدالوهاب ورأيه في ابنه، إذ قال: "لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام أو قريبًا من هذا الكلام، وقد كتب والده إلى بعض إخوانه رسالة نوَّه فيها بشأنه يثني فيها عليه أن له فهمًا جيدًا... إلخ"  
 
ونتيجةً لما لمسه والده فيه من نبوغ ونضج مبكر زوَّجه وهو في سن الثانية عشرة من عمره، ثم قام بحجته الأولى، وزار المدينة المنورة، ولعل ما شاهده من حلقات العلم ودروس العلماء في الحرمين الشريفين ترك أثرًا كبيرًا في نفسه، وشحذ همته لطلب العلم. رجع الشيخ محمد إلى بلدته العيينة، ولكنه لم يجد فيها ما يشبع طموحه العلمي، لذا عقد العزم على شد الرحال في طلب العلم، فاتجه إلى مكة المكرمة حاجًا للمرة الثانية، وبعد الحج سافر إلى المدينة المنورة ودرس على بعض علمائها، ولكن صلته وملازمته للشيخين عبدالله بن إبراهيم بن سيف ومحمد حياة السندي   كانت أقوى، فتأثر بهما وبآرائهما، وقد قيل إنه كان ذات يوم واقفًا عند الحجرة النبوية، في حين كان أناس يدعون ويستغيثون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما رآه الشيخ محمد حياة السندي أتى إليه، وقال: ما تقول؟ قال: إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون  
 
عاد الشيخ إلى العيينة متأثرًا برحلته العلمية وقد تبلورت لديه فكرة الإصلاح، ولكنه لم يصرح بها، وكان يرى التريث والاستزادة من العلم لكي يصبح أكثر تأهيلاً، لذا شد رحاله مرةً أخرى واتجه إلى البصرة ودرس على يد الشيخ محمد المجموعي، وتذكر بعض المصادر المقربة من الشيخ، أنه ألف هناك كتاب (التوحيد)   الذي يعد أهم مؤلفاته، بدأ بالدعوة في البصرة وتركزت أفكاره حول التوحيد وإنكار الشركيات ومحاربة البدع، ولذا ثارت بينه وبين خصومه مناقشات حادة دعت إلى تدخل المسؤولين وإخراج الشيخ من تلك المدينة، وفي طريق عودته مرَّ بالأحساء والتقى ببعض علمائها، مثل: الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ عبدالله بن فيروز والشيخ محمد بن عفالق  ،  وتناقش معهم في أمور التوحيد والعقيدة. وأخيرًا، ذكرت بعض المصادر أن الشيخ سافر إلى بلدان أخرى في العراق وفارس والشام، ولكن المصادر الأوثق والأقرب من الشيخ لم تذكر سوى الحجاز والبصرة والأحساء.
 
وبعد هذه الرحلات العلمية التي صقلته علميًا، ووسعت مداركه عن واقع المجتمع الإسلامي بشكل عام وواقع المجتمع النجدي بشكل خاص، عاد إلى منطقة الرياض والتحق بوالده في حريملاء، إذ أصبح قاضيًا بها بعد أن عزل عن قضاء العيينة، استقر الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حريملاء وحاول أن يجهر بدعوته، يقول ابن بشر: "أخذ يقرأ عليه (أي على والده)، وينكر ما يفعل الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال، وكثر منه الإنكار لذلك، ولجميع المحظورات، حتى وقع بينه وبين أبيه كلام"  .  ونتيجةً لهذا الخلاف مع والده، ولأن دعوته لم تلقَ القبول المطلوب، آثر الشيخ التريث في الأمر وانصرف للعلم والتدريس، وحسب أرجح الأقوال قام بتأليف كتابه الشهير (التوحيد).
 
بعد وفاة والده سنة 1153هـ / 1740م، أعلن الشيخ محمد بن عبدالوهاب دعوته الإصلاحية، ودخلت حياته مرحلة جديدة من العمل والكفاح توجت بقيام دولة على أسس قوية، ومع أن دعوته لقيت بعض النجاح في حريملاء وغيرها من البلدان المجاورة، إلا أن كثرة خصومه اضطرته إلى مغادرتها إلى العيينة التي قبل أميرها عثمان بن معمر الدعوة الجديدة وأيدها، وتوثقت العلاقة بينهما بزواج الشيخ محمد بعمة الأمير الجوهرة بنت عبدالله بن معمر  .  ازداد أنصار الشيخ ومؤيدوه داخل العيينة وخارجها، فبدأ مع أميرها في تطبيق الدعوة وذلك بمعاقبة من لا يؤدون الصلاة جماعة في المساجد، كما قام بقطع الأشجار التي يتوسل بها بعض الجهال، وكذلك هدم القباب المقامة على قبور بعض الصحابة والأولياء، مثل: ضريح كان يُعتقد أنه ضريح زيد بن الخطاب رضي الله عنه، لكن الأمر الذي هزَّ المجتمع داخل نجد وخارجه، هو تطبيق حد الرجم على امرأة أقرت بالزنا وتوافرت شروط رجمها.
 
وهكذا دخلت الدعوة مرحلة التطبيق العملي في بعض جوانبها، فعارضها بعض العلماء في منطقة الرياض، وفي طليعتهم سليمان بن سحيم من الرياض، وعبدالله المويس من حرمة  ،  ومع هذا فقد أحرزت الدعوة نجاحًا على المستوى المحلي، ولم يتمكن خصومها من الوقوف أمام تقدمها، ولذلك بحثوا عن حليف خارج الإقليم للتصدي لها، ووجد هؤلاء الخصوم ضالتهم في سليمان بن محمد آل عريعر (ويسمى أحيانًا آل غرير أو آل حميد)، زعيم بني خالد في الأحساء وقالوا: "إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور"  .  وقد كانت الأحساء بموقعها وموانئها مهمة من الناحية الاقتصادية لمنطقة الرياض لتصدير محصولاتها والاتصال بالعالم الخارجي، بالإضافة إلى ذلك فقد كان لأمير العيينة مزرعة في الأحساء "يبلغ محصولها كل عام ستين ألف ريال ذهبي"  ،  وكان سليمان بن محمد يدفع معونة مالية كل سنة، أو كما قال ابن بشر: "خراجًا كثيرًا جدًا قيل إنه اثنا عشر ماية (مئة) أحمر وما يتبعها من كسوة وطعام"  
 
وبعد أن اقتنع زعيم بني خالد بخطورة الوضع في نجد، كتب إلى عثمان بن معمر يطلب منه إخراج الشيخ من العيينة، أو كما قال ابن غنام: "يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه"  ،  وقد هدده بعقوبات اقتصادية تتمثل في قطع المعونة السنوية، وحرمانه من استلام دخل مزرعته، وعدم السماح لتجار بلاده بدخول الأحساء، وتحت هذا التهديد لم يستطع أن يصمد في وجه هذه العقوبات، ولم ير بدًا من الانصياع إلى أوامر زعيم بني خالد، فطلب من الشيخ المغادرة. كان عثمان بن معمر مقتنعًا بالدعوة وصحة مبادئها، ولذا حاول الشيخ إقناعه بالثبات والصمود وعدم الانصياع إلى تهديدات حاكم الأحساء، ولكنه يعلم خطورة الوضع، ومدى الخسارة التي ستلحق به، فأمر خيالة من عنده بمرافقة الشيخ إلى حيث يريد، فاختار الدرعية.ج - الدرعية وآل سعود: 
 
كان تأسيس الدرعية حدثًا مهمًا جعله المؤرخ محمد الفاخري بداية لتاريخه إذ قال: "وفيها؛ أي في سنة 850هـ / 1446م قدم مانع بن ربيعة المريدي على ابن درع، صاحب حجر والجزعة من بلدته القديمة، وهي الدرعية عند القطيف، وهو من قبيلته، فأعطاه المُلَيْبِيد وغَصِيْبة المعروفة فنـزلها وعمَّرها، واتسعت العمارة فيها والغرس في نواحيها، وعمَّرتها ذريته من بعده وجيرانهم"  .  استطاع أحفاد مانع المريدي، أجداد آل سعود، حكم هذين الموضعين، بل التوسع فيما حولهما من الأمكنة الواقعة إلى الشمال من غصيبة.
 
وتنسب الأسرة السعودية إلى جدها سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان من قبيلة بني حنيفة المعروفة، وكانت الأسرة السعودية تعرف قبل ذلك بآل مقرن نسبة إلى مقرن بن مرخان جد محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى.
 
وقد تعاقب أحفاد مانع المريدي على الحكم، ونمت مناطق حكمهم وتطورت وأصبحت تسمى الدرعية. وبعد مرور ثلاثة أجيال على استقرار المردة في موطنهم الجديد تسنَّم إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي الإمارة، وشهدت الدرعية بعض الأعمال العسكرية، ومرَّ مجتمعها ببعض التحولات السياسية والاجتماعية، وظهر موضع أو حي جديد، وهو الطريف الذي قُدِّر له أن يؤدي دورًا كبيرًا فيما بعد  .  وكانت الدرعية، مثل غيرها من الإمارات الأخرى في منطقة الرياض، تعاني من مشكلات كثيرة؛ وبخاصة التنافس بين أفراد الأسرة الحاكمة على السلطة، وفي مطلع القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) وصل التنافس حدًا أضعف أحفاد مانع المريدي كثيرًا، فاستغل سلطان بن حمد القبس ذلك الوضع وانتزع الإمارة منهم سنة 1107هـ / 1695م، استمر سلطان القبس حاكمًا للدرعية حتى قتل بعد ثلاثة عشر عامًا، فخلفه أخوه عبدالله ولكن لم يطل به المقام إذ قتل في العام التالي  . 
 
تمكن موسى بن ربيعة بن وطبان من استعادة الحكم سنة 1121هـ / 1709م، واستمر يحكم مدة خمس سنوات، ثم خلفه سعود بن محمد بن مقرن حتى توفي سنة 1137هـ / 1724م، وبعد فترة من الصراع على الحكم استمرت مدة سنتين، تمكن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن من الوصول إلى السلطة، وقام ببعض الإجراءات القوية التي مكنته من السيطرة على الدرعية كاملة  ،  وبهذا ازدادت قوة هذه البلدة وشهد مجتمعها استقرارًا سياسيًا لم يشهده منذ فترة طويلة، ومما لا شك فيه أن هذه العوامل شجَّعت الشيخ محمد بن عبدالوهاب على القدوم إليها.
 

الدرعية تحتضن الدعوة

 
عندما لم تنفع كل وسائل النصح في إقناع ابن معمر، وثنيه عن رأيه بعدم الانصياع إلى أوامر زعيم بني خالد، وجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه مرةً أخرى يبحث عن مأوى ومناصر لدعوته. فقد حطَّ رحاله في الدرعية التي كانت قوتها آخذة في الاستقرار والتطور تحت قيادة الأمير محمد بن سعود. كان من أدلة قوة الدرعية المتنامية أنها تمكنت في سنة 1133هـ / 1720م، من صدِّ هجوم سعدون بن محمد بن عريعر، زعيم بني خالد في الأحساء، وأنها شكلت حملة لمهاجمة العيينة سنة 1139هـ / 1726م، وتدخلت في الرياض سنة 1151هـ / 1738م لدعم وتثبيت حكم دهام بن دواس  
 
كان الشيخ يعلم كل هذه الأمور، خصوصًا علاقة الدرعية مع زعماء بني خالد في الأحساء الذين كانوا وراء إخراجه من العيينة، بالإضافة إلى تعقيدات السياسة وتقاطع المصالح بين أمراء البلدان النجدية، ولذا فإنه بعد أن وازن بين كل هذه العوامل من حيث السلبيات والإيجابيات قرَّر التوجه إلى الدرعية، ويبدو أن من أهم العوامل التي شجعته على ذلك، هو أن الدعوة سبقته إلى هناك، ولقيت قبولاً حسنًا لدى وجهاء القوم من أمثال أخوي الأمير، مشاري وثنيان، وابنه عبدالعزيز، وكذلك آل سويلم الذين سبق أن تلقوا العلم على الشيخ في العيينة، وقد حلَّ الشيخ ضيفًا على آل سويلم حين وصوله إلى الدرعية 
 
وصل الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية على أرجح الأقوال في أواخر سنة 1157هـ / 1744م، وعندما علم الأمير محمد بن سعود بقدومه، ذهب إلى مقابلته في منـزل أحمد بن سويلم، ورحَّب به غاية الترحيب ووعده بالنصر والمؤازرة، دارت بين الطرفين مناقشات وضعت اللبنات الأولى في بناء الدولة السعودية الأولى، وانتهت إلى ماعرف بـ (بيعة الدرعية). وحسبما ورد عن ابن غنام وابن بشر، فإن الأمير محمد بن سعود اشترط على الشيخ محمد بن عبدالوهاب - مقابل الدعم والتأييد ومناصرة الدعوة - ألا يغادر الدرعية عندما تقوى دعوته، أو كما قال ابن غنام: "أن لا يرحل إلى سائر الآفاق"  ،  وقد ذكر ابن بشر شرطًا آخر أضافه الأمير، وهو: "أن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم"، ولم يتردد الشيخ بالموافقة على الشرط الأول، أما الشرط الثاني فأجابه برجاء أن يعوضه الله من الغنائم  .  كان الشيخ مرنًا في هذا الموقف إذ وازن بين مصلحة الدعوة ومسألة جزئية رأى أن الزمن كفيل بحلها.
شارك المقالة:
46 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook