الجرهائيون والسلوقيون بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الجرهائيون والسلوقيون بالمنطقة الشرقية  في المملكة العربية السعودية

الجرهائيون والسلوقيون بالمنطقة الشرقية  في المملكة العربية السعودية.

 
أدى نجاح سلوقس الأول 305 - 284 ق.م في إحكام سيطرته على الأجزاء الشرقية من إمبراطورية الإسكندر المقدوني، إلى خضوع المنطقة الشرقية للدولة السلوقية.
 
وعلى الرغم من قلة المصادر التي تتناول تاريخ المنطقة خلال هذه الفترة، فإنه من الواضح أنها لم تخضع للسيطرة المباشرة للحكام السلوقيين، وأن سكان المنطقة احتفظوا باستقلالهم الذاتي كما سوف يتضح من حملة أنطخيوس الثالث على الجرهاء في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد.
 
ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها: توجه السلوقيين السياسي والاقتصادي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وعدم وجود منافس قوي على حدودهم الشرقية.
 
ولذلك اقتصر وجود السلوقيين في المنطقة على إحكام سيطرتهم على الخليج العربي من خلال وجود أسطول بحري.
 
فقد ذكر بليني وجود هذا الأسطول في مياه الخليج خلال حكم سلوقس الأول وأنطخيوس الأول 
 
وخلال حكم أنطخيوس الثالث، كلف أحد قادته المقربين؛ وهو تايخون بالإشراف على مقاطعة الخليج العربي التي عرفت باسم ولاية البحر الأرتيري، وبناء أسطول بحري في الخليج العربي؛ بهدف الحفاظ على الأمن والسيطرة التجارية  
 
وربما يعود السبب في ذلك إلى ازدياد النشاط التجاري لدولة البطالمة مع الهند، ومساعيهم إلى إحكام السيطرة على تجارة الجرهائيين الذين كانت بضائعهم تنقل إلى جنوب سورية الخاضعة للبطالمة  
 
ويدعم هذا الرأي حملة أنطخيوس الثالث على الجرهاء التي تشكل الشاهد الوحيد على قيام السلوقيين بحملة على شبه الجزيرة العربية.
 
ولكن ذلك لا ينفي قيام حملات أخرى على يد القادة المحليين؛ بهدف الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية من سكان المنطقة، ولكن هذه الحملات لم تحظَ بالاهتمام الذي حظيت به حملة الملك السلوقي. وهناك كثير من الشواهد التاريخية والآثارية على ازدهار منطقة الخليج العربي بشكل عام، والمنطقة الشرقية بشكل خاص، خلال الحكم السلوقي؛ نتيجة سياسة السلوقيين المرنة، فقد منح السلوقيون السكان المحليين، وخصوصًا في المناطق البعيدة عن مراكز الدولة السلوقية، حرية مطلقة في إدارة شؤونهم المحلية سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا.
 
ولم تسعَ الدولة السلوقية إلى فرض نفوذها السياسي بالقوة على الجرهائيين، بل سمحت لهم بحرية التحرك والاستفادة من المقومات التجارية في الدولة. فتح السلوقيون مناطقهم للمهاجرين الإغريق للاستيطان في جميع أنحاء الدولة السلوقية، فقد شجعوا الإغريق على الهجرة والاستيطان على سواحل الخليج العربي؛ بهدف إحكام سيطرتهم على التجارة مع الهند وشبه الجزيرة العربية، وقيام هذه الجاليات التجارية الإغريقية بدور الوسيط في شراء البضائع الشرقية ونقلها إلى مراكز السلوقيين على البحر الأبيض المتوسط، وتذكر المصادر تأسيس تسع مدن سلوقية على سواحل الخليج العربي، منها خمس مستوطنات على السواحل الشـرقــيـة للجزيــرة العربـيــة هــي: أريثـوسـا، لارسيا، خالسيس، أرتيميتا، وكارهاي  
 
إن نقص المعلومات التاريخية والآثارية لم يساعد على تحديد أي مدينة إغريقية في المنطقة الشرقية عدا مدينة كارهاي التي يعتقد بوجودها في منطقة قريبة من الجرهاء حسب رواية بليني، ويمكن الاستدلال على وجود جاليات إغريقية من خلال الشواهد الآثارية المكتشفة في عدد من المواقع في المنطقة، مثل: ثاج، وجزيرة تاروت، وعين جوان، والقطيف، وتتمثل في كسر الفخار والسيراميك والتماثيل والعملات الهيلينستية، كما عثر في تاروت على شاهد قبر كتب باللغة الإغريقية  
 
إن حملة الملك السلوقي أنطخيوس الثالث على الجرهاء في سنة 205 ق.م لا تتعارض مع السياسة السلوقية في المنطقة، ويجب دراسة الحملة العسكرية في إطار نشاطه العسكري خلال هذه الفترة، فلم تكن الحملة على الجرهاء موجهة مباشرة إلى المدينة، بل قام بها في طريق عودته من حملته الشرقية التي استعاد فيها مناطق الدولة السلوقية المستقلة في إيران والهند، ويذكر مؤرخ الحملة بوليبيوس أن أنطخيوس الثالث عبر الخليج العربي إلى جزيرة البحرين في طريقه إلى الجرهاء، وأرسى أسطوله في ميناء العقير  
 
وعندما علم الجرهائيون بنوايا الملك قاموا بكتابة خطاب إليه يرجون فيه أن يحفظ لهم حريتهم التي منحتهم إياها الآلهة.
 
وبعد استجابة الملك لطلبهم، يذكر بوليبيوس: استصدر الجرهائيون مرسومًا بتكريم أنطخيوس، وإهدائه خمسمئة قطعة من الفضة ومئة قطعة من اللبان ومئتي قطعة ما يسمونه عبق البخور (مثل المر)، وعندئذٍ أبحر الملك إلى جزيرة تايلوس، ثم غادر إلى سلوقيا.
 
وكانت العطور تأتي من الخليج العربي  
 
لم يكن هدف أنطخيوس الثالث من الحملة فرض سيطرته المباشرة على الجرهائيين، وإنما زيادة الضرائب المفروضة عليهم، وكذلك منعهم من التجارة مع البطالمة في سورية وفلسطين، باعتبار هذه التجارة مصدرًا اقتصاديًا مهمًا للدولة السلوقية، وكذلك تأكيده على التحالف القوي بين السلوقيين والجرهائيين في مجال التجارة الشرقية، ويشير بوليبيوس في نهاية النص إلى أن الخليج العربي هو مصدر تجارة البخور، ويستدل على تجارة الجرهائيين مع البطالمة في سورية وفلسطين من البرديات المكتشفة في أرشيف زينون في مصر التي ذكرت أن الجرهائيين كانوا يجلبون البخور والمر واللبان إلى فلسطين  
 
إن خضوع الجرهائيين لمطالب أنطخيوس الثالث يتوافق مع سياسة الأنباط في القرن الرابع قبل الميلاد، وهم الذين قاموا في عام 312 ق.م بدفع مبالغ ضخمة إلى القائد إنتجونس؛ بهدف شراء حريتهم وتأمين تجارتهم  
 
وهو أمر يتوافق مع الطبيعة المسالمة للممالك التجارية في شبه الجزيرة العربية التي كان هدفها الأساسي تأمين الأسواق وعدم الدخول في نـزاع عسكري مع القوى المجاورة.
 
ويذكر بعض الباحثين أن الحملة قد حققت أهدافها في تعزيز التبادل التجاري للسلوقيين في الجرهاء، حيث زاد عدد العملات المكتشفة في المنطقة بشكل كبير عن الفترة السابقة  
 
ولكن يجب الإشارة إلى أنه خلال الفترة السلوقية لم تقتصر تجارة الجرهائيين على مناطق الدولة السلوقية، بل نجد عددًا من هؤلاء التجار في سورية وفلسطين وجزر البحر الأبيض المتوسط، فقد قدَّم عدد منهم القرابين في جزر ديلوس وكوس في بحر إيجة  
 
كذلك تعامل الجرهائيون مع الأنباط في شمال غرب الجزيرة العربية، حيث عثر على بعض الفخار النبطي في ثاج.
 
إن إشارة ديدورس الصقلي إلى تجارة الجرهائيين مع البتراء ربما تعود إلى سياسة الاحتكار، والتضييق التي فرضها البطالمة على الأنباط، وتعاونهم مع اللحيانيين في العلا  
 
أما تجارة الجرهائيين داخل شبه الجزيرة العربية فنستدل عليها من خلال العملات المنسوبة إليهم، فقد تم العثور على كميات كبيرة من المسكوكات الجرهائية في البحرين، وفيلكة، والدور، ومليحة في الإمارات العربية المتحدة، وإن كان بعضهم يرى أن الدور ومليحة كانتا من المراكز الرئيسة لسك العملة في شرق شبه الجزيرة العربية  
 
وتشكل العملات أحد المصادر المهمة لتاريخ الجرهاء؛ فقد انتشرت خلال العصر الهيلينستي مجموعة ضخمة من العملات التي لم تكن معروفة في السابق في الخليج العربي، وتركز انتشار هذه المجموعات بشكل رئيس في المناطق الساحلية من شرق شبه الجزيرة العربية، وبخاصة المنطقة الشرقية التي حظيت بالنصيب الأوفر من هذه العملات المكتشفة، ومعظم هذه المسكوكات تم اكتشافها في المدافن المنتشرة في مواقع متفرقة من المنطقة الشرقية، كما تم التقاط عدد جيد من هذه العملات خلال أعمال المسح الأثري، أو عن طريق الصدفة بوساطة العاملين في شركات النفط.
 
ويتركز انتشار هذه العملات في عدد من المواقع الآثارية من المنطقة الشرقية مثل: جبل كنـزان، والقطيف، والهفوف، وعين جوان، ومنجم الملح، حيث اكتشفت مئات القطع النقدية. 
 
ولكن أهم هذه المواقع هو موقع ثاج الذي تم فيه حصر نحو 191 مسكوكة، بالإضافة إلى عدد من القوالب الطينية الخاصة بسك العملة، ما يرجح أن تكون - ثاج - مركزًا مهمًا لسك العملة الجرهائية في المنطقة الشرقية  
 
وقد تم سك معظم عملات الجرهاء المصنوعة من الفضة والبرونـز والنحاس، خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وقد استمرت بعض النماذج المشابهة في الصدور حتى القرن الثاني الميلادي، ولكن بدرجة أقل من الدقة، حيث اعتمد سكان الجرهاء في صناعة عملاتهم على نمط عملات الإسكندر المقدوني التي تحمل اسم هذا القائد وصورًا للإله زيوس وهرقل، ولم تكن عملات الإسكندر هي النماذج الوحيدة المعتمدة لدى الجرهائيين، بل إنهم قلدوا عملات الحكام السلوقيين مثل سلوقس الأول وأنطخيوس الثالث 
 
وقد أبدع صناع هذه العملات عندما لم يكتفوا بتقليد الرموز الهيلينستية، بل قاموا بإدراج رموز محلية خالصة على عملاتهم، من خلال إدخال تعديلات على النماذج الهيلينستية، فنجد مجموعة كبيرة من المسكوكات تحمل صورًا لشجرة النخيل التي تتدلى منها عذوقها الكبيرة أو سعفها، بالإضافة إلى الرسوم الهيلينستية الأخرى، كما يدعم اكتشاف العملات بأعداد كبيرة صدق كتابات المؤرخين الإغريق حول الثراء الفاحش لتجار الجرهاء. ولكن الأهمية الكبرى لهذه العملات تكمن في النقوش العربية التي تمت كتابتها على المسكوكات، وتحمل أسماء يرجح أن تكون أسماء الحكام المحليين للجرهاء، فنجد اسم الملك أبي أيل، وأبي يثع، والحارث، وقد حمل الأخير لقب ملك هجر، ومن غير المؤكد أن هذا الاسم امتداد للاسم المعروف خلال العصر الإسلامي  
 
كما أمكن تأريخ سك إحدى العملات التي تحمل اسم الملك أبي أيل التي عثر عليها في ثاج إلى ما قبل 245 ق.م  
 
وقد تم التعرف إلى ما يعتقد الجرهائيون أنه إلههم الأول شمس الذي رمز له بالأحرف العربية (شمس) أو الحرف الأول (ش) على معظم المسكوكات من خلال العملات.
 
وعبادة الشمس تقليد انتشر في مناطق الشرق الأدنى كلها، حيث نجد صورًا لعبادة الشمس في مجتمعات شبه الجزيرة العربية كلها، تحتل المكانة الأولى لدى الجرهائيين وملوك المنطقة الشرقية، ويرى بعض الباحثين أن الأسماء الموجودة على العملات الجرهائية مثل أبي أيل وأبي يثع، ربما تكون أسماء الأصنام، خصوصًا أن عبادة أيل ويثع منتشرة لدى ملوك جنوب شبه الجزيرة العربية  
شارك المقالة:
237 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook