التطورات الحضارية في عهد الملك عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
التطورات الحضارية في عهد الملك عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية

التطورات الحضارية في عهد الملك عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية.

 
 
قام الملك عبدالعزيز بوضع اللبنات الأساسية للبناء الحضاري للمملكة خلال مراحل التوحيد، ويلحظ المتتبع لتاريخ المملكة أن الانطلاقة الحقيقية للتطورات الحضارية للمملكة في عهد الملك عبدالعزيز كانت بعد ضم الحجاز؛ وذلك لعدة أسباب منها: أن مسألة توحيد المملكة وبسط الأمن فيها هي الخطوة الأهم في بناء الدولة، وهي الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه خطوات البناء الحضاري؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يُقدم الأهم على المهم، وحين انتهت تلك المرحلة، بدأت من تلك المرحلة معركة البناء الحضاري. أتاح ضم الحجاز للملك عبدالعزيز فرصة تعزيز البناء الحضاري؛ ذلك أن الحجاز   وبعض المناطق الأخرى التي كانت تحت الحكم العثماني تملك إرثًا حضاريًا تراكميًا عبر السنين، من حيث بنية التنظيمات الإدارية والتعليم المنظم، ووفرة رجال التعليم والإدارة، إلى غير ذلك من الجوانب الحضارية الأخرى المتوافرة في الحجاز. وقد سخَّر الملك عبدالعزيز ما كان متوافرًا في الحجاز من إمكانات حضارية بشرية ومادية في خطوات البناء التي قام بها بعد ضم الحجاز. شهدت هذه المرحلة في نهاياتها حدثًا مهمًا كان له أثر كبير في تيسير خطوات البناء وتعجيلها، تمثَّل في اكتشاف النفط ومن ثَمَّ تدفقه وتصديره إلى الخارج، وقد كان لهذا الحدث أثره الكبير في خطوات البناء الحضاري للمملكة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، من حيث توفير المال الذي كان هو الحلقة الأهم في مسار التنمية والتحديث.وقد شملت حركة البناء والتنمية الحضارية للمملكة في عهد الملك عبدالعزيز عددًا من المجالات المختلفة، لعل من أهمها: تطور التعليم، وخدمة الحجيج والحرمين الشريفين، وتنظيم القضاء والعناية بالحسبة والهيئات الدينية، ومجال الزراعة والمياه، وتنظيم وزارة الدفاع وبناء الجيش السعودي، والاهتمام بالرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية.
 

تطور التعليم

 
كانت البدايات الأولى لحركة التعليم النظامي في المملكة قد حدثت بعد ضم الملك عبدالعزيز للحجاز، حيث كان التعليم النظامي متوافرًا في مدن الحجاز الرئيسة، خصوصًا مكة المكرمة والمدينة المنورة قبل ضمهما، فجاءت تلك الانطلاقة امتدادًا لما كان سائدًا فيه قبل ذلك، فقد شجع الملك عبدالعزيز حركة التعليم التي كانت قائمة، وأنشأ إدارة عامة تتولى أمور التعليم الحكومي المنظم وتشرف عليه، وسخَّر لها ما كان متاحًا من إمكانات مادية وبشرية، وكانت تلك البدايات في مجملها مقتصرة على الحجاز نحو عشر سنوات أو أكثر بقليل.ولقد واجه التعليم النظامي كثيرًا من العقبات في بداياته؛ منها: الظروف الاقتصادية الصعبة للدولة، وتعدد صور التعليم في العهود السابقة لضم الحجاز، وتخوف الأهالي من المدارس الحديثة وتصوُّر أنها دعوة من الحكومة لتجنيد أبنائهم، وقد واجه الملك عبدالعزيز هذه الصعوبات واستطاع تجاوزها بحكمته وحنكته السياسية.حدد الملك عبدالعزيز سياسته التعليمية في اتجاهين كبيرين؛ الأول: الشروع في تنفيذ مشروعات وتجارب تعليمية جديدة، والثاني: وضع نظام موحد للتعليم يتطور ويتوسع تدريجيًا، واستطاع الملك عبدالعزيز استقطاب عدد من علماء الحجاز ووجهائه في الخارج، وولاهم مناصب حكومية مهمة ليشاركوا في مراحل تنمية المملكة في مراحل تأسيسها  وفيما يأتي عرض لنماذج من أهم الإنجازات التعليمية في عهده:
 
1) مديرية المعارف: 
 
أصدر الملك عبدالعزيز في غرة رمضان 1344هـ / 1926م أمرًا بإنشاء إدارة خاصة للإشراف على التعليم وتنظيمه في مختلف أرجاء الدولة، وأُطلق عليها اسم (مديرية المعارف العامة)، ووُضعت لها أهداف ونظم جديدة جعلتها تتميز عما سبقها من إدارات تعليمية بهدفين رئيسين؛ أولهما تعميم التعليم ونشره في أنحاء البلاد، وثانيهما إقامة النظام التعليمي المتكامل، وتحددت صلاحياتها في الإشراف على جميع المدارس في البلاد، وقد بدأت منذ تأسيسها بعمل الترتيبات اللازمة لافتتاح المدارس والمعاهد ووضع المناهج وفق تعاليم الإسلام الحنيف  . وقد عُمل على نشر المدارس الابتدائية وتعميمها في المدن والقرى، وفُتحت تسع مدارس بمعدل مدرسة واحدة في تسع مدن، وخُصصت المدارس التسع لكل من: الرياض، والأحساء، والجبيل، والمجمعة، وشقراء، وبريدة، وعنيزة، وحائل، والجوف، وافتُتح أكثرها عام 1356هـ / 1937م، وقد قدم لها الملك عبدالعزيز الدعم المادي والمعنوي على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة للمملكة آنذاك والعقبات التي واجهت التعليم النظامي في نشأته، وكان لهذه المدارس التسع أهمية كبرى في بدء حركة التعليم بالمدارس الحكومية في تلك الأنحاء  .  كما تم إدخال بعض التعديلات على المناهج الدراسية، وإضافة مواد جديدة مثل مبادئ العلوم والهندسة، والاهتمام بالتربية البدنية، وإدخال الحركة الكشفية فقد تم تأسيس أول فرقة كشفية في المدارس الحكومية في المملكة.
 
2) مجلس المعارف:
 
استمرارًا لاهتمام الملك عبدالعزيز بالتعليم ورجاله عمل على وضع تنظيم ومجلس متخصص لتحقيق أهدافه السامية التي يسعى لتحقيقها في مجال التعليم؛ فأصدر مرسومًا ملكيًا في المحرم عام 1346هـ / يوليو 1927م بإنشاء مجلس للمعارف يضم نخبة من العلماء برئاسة مدير المعارف، وكان عدد أعضائه ثمانية - غير الرئيس - أربعة منهم من كبار الموظفين وأربعة من أرباب الكفاءة والمعرفة من غير الموظفين، وللمجلس صلاحيات ومهمات، منها: الموافقة على ميزانية المعارف العمومية، وتعيين المعلمين، وعزلهم عند الضرورة، ووضع برامج التعليم ومناهجه، والنظر في التقارير الواردة من المدارس واتخاذ اللازم نحوها، والإشراف على الامتحانات الخاصة بالمعلمين، وتشجيع التأليف والترجمة  . 
 
3) المعهد العلمي السعودي:
 
تأسس المعهد العلمي السعودي في بداية عام 1345هـ / 1926م، وكان يُطلق عليه اسم (المعهد الإسلامي)، وهو أقدم مؤسسة تعليمية حكومية في المملكة لما بعد المرحلة الابتدائية، وكان هدفه الرئيس هو إعداد المعلمين المتخصصين للتدريس في المدارس الابتدائية التي فُتحت في المدن والقرى، وتزويد الدوائر الحكومية بالموظفين الأكْفَاء. وقد أقبل الطلاب على المعهد في البداية، لكن أخذ عددهم يقل بعد فترة؛ مما جعل مديرية المعارف تغلقه لإعادة تنظيمه ورفع المكافأة التشجيعية، وبعد عام من إغلاقه أُعيد فتحه باسمه الجديد (المعهد العلمي السعودي). وقد كانت مدة الدراسة فيه أربع سنوات زيدت عام 1365هـ / 1946م إلى خمس سنوات. وقد استقدمت مديرية المعارف للتدريس فيه عددًا من المشايخ والمدرسين من مصر وسوريا، إلى جانب من كان يدرِّس فيه من السعوديين  . وقد كان الملك عبدالعزيز وثيق الصلة بهذا المعهد، وشارك مباشرة في اختيار مديريه، بل شارك أيضًا في اختيار طلابه  . وقد تخرجت أول دفعة في المعهد عام 1350هـ / 1931م، وابتهج الملك عبدالعزيز بذلك، وألقى في المتخرجين خطابًا عندما التقاهم في قصره بالمعابدة، قال فيه:" أيها الأبناء، إنكم ثمرةٌ مِن غَرْسِنا الذي غرسناه في هذا المعهد، فاعرفوا قدر ما تلقيتموه من العلم، واعلموا أن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عونًا لصاحبه يكون عونًا عليه؛ فمن عمل به يكون عونًا له ومن لم يعمل به يكون عونًا عليه، وليس من يعلم كمن لا يعلم... لا مانع من أن نأخذ من غيرنا المفيد؛ فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، وقد كان للعرب في جاهليتهم خصال حميدة، وكان لغيرهم أيضًا؛ فجاء الإسلام فأقرها... أبنائي.. لقد منَّ الله عليكم وأرشدكم إلى طريق الخير؛ فاعملوا، إنا لمنتظرون"  . 
 
4) الابتعاث ومدرسة تحضير البعثات:
 
عرفت البلاد في أواخر العهد العثماني نماذج قليلة من البعثات الفردية التي يتوجه فيها بعض الأفراد إما على نفقتهم وإما على نفقة الحكومة للدراسة في المعاهد العلمية خارج البلاد، ولكن البعثات الجماعية المنظمة قد بدأت في عهد الملك عبدالعزيز بهدف تنمية التعليم، فقد أمر بتشكيل لجنة علمية لدراسة فكرة الابتعاث، وتكونت هذه اللجنة من الشيخ حافظ وهبة والسيد صالح شطا والشيخ محمد صالح نصيف وغيرهم، ووضعت اللجنة بعد عدد من الاجتماعات خطوط الابتعاث الأولى وعرضت تقريرها على الملك، فأمر أن تُرسَل البعثة السعودية الأولى - وعددها 14 طالبًا - إلى مصر، وكان ذلك في عام 1346هـ / 1927م، ثم بدأت تتوالى البعثات العلمية وتؤتي ثمارها بإعداد أبناء الوطن للوفاء بحاجة البلاد من التخصصات النادرة والارتقاء بكفاءة المواطنين.ومن الطبيعي أن يتابع الملك ما ينشأ أمام المبتعثين من العقبات؛ فبعد أن توافد الطلاب السعوديون إلى مصر وجدوا أن المناهج التي درسوها في المملكة لا تفي بتأهيلهم للالتحاق بالمعاهد العلمية العالية هناك، وأنهم في حاجة إلى تعلم لغة أجنبية وعلوم الطبيعة والكيمياء، وعلى الرغم من أن الطلاب الأربعة عشر قد تلافوا أمرهم بدراسات خاصة التحقوا بها قبل دخولهم المعاهد العالية؛ إلا أن تأسيس مدرسة لتحضير البعثات العلمية بات ضرورة ملحة، فاقترح الشيخ طاهر الدباغ مدير المعارف إنشاء (مدرسة تحضير البعثات)، وترجع أهمية هذه المدرسة إلى أنها كانت مواجهة ناجحة وسريعة ومنظمة لعقبة من العقبات الرئيسة التي واجهت طلاب البعثات، وأنها كانت تجربة تطبيقية نتج منها تطوير التعليم الثانوي في المملكة.وفُتحت مدرسة تحضير البعثات في محرم عام 1356هـ / مارس 1937م، وكان لها أبعد الآثار في رفد البلاد بالمتخصصين في الطب والهندسة والإدارة والمحاسبة والحقوق، وغيرها من التخصصات الرفيعة التي تؤهل للوظائف القيادية  ،  وافتتحت مدرسة الأمراء ومدرسة الأيتام في الرياض.
 
5) التعليم العالي:
 
بعد تأسيس المعاهد العلمية والمدارس الثانوية في المدن الرئيسة في المملكة أخذت أعداد الخريجين تزداد عامًا بعد عام، فازداد عدد المبتعثين إلى الخارج، وأصبحت الحاجة ماسة للدراسات الجامعية وفتح المجال لخريجي تلك المعاهد والمدارس لمتابعة دراستهم، وقد رفع مجلس المعارف توصياته في هذا الشأن إلى الملك فأصدر أمره بفتح كلية الشريعة بمكة المكرمة في أوائل عام 1369هـ / 1949م، فكانت أول تجربة رائدة للتعليم العالي الحديث في المملكة، أعقب ذلك افتتاح كلية المعلمين بمكة بداية عام 1372هـ / 1952م، ثم كلية الشريعة بالرياض في بداية عام 1373هـ / 1953م، وكان الهدف من هذه الكليات تخريج القضاة والمدرسين والدعاة والموظفين لخدمة الدولة في مختلف المجالات  . 
 
ب) عنايته بالحجيج وشؤون الحرمين الشريفين:
 
لقد استشعر الملك عبدالعزيز الأمانة الملقاة على عاتقه وعاتق دولته وشعبه تجاه الحج والحجيج منذ أول يوم دخل فيه مكة المكرمة  بعد ضمها للدولة عام 1343هـ / 1924م، وتمثلت مظاهر هذه العناية في ضبط النواحي الأمنية للحج داخل مكة وخارجها، وتأمين طرق الحج، ومعاقبة كل من يتجاوز حدوده في ذلك  ،  والعناية بالحرمين الشريفين، وإرساء النواحي التنظيمية للإدارة المشرفة على شؤون الحج بإنشاء المديرية العامة لشؤون الحج، والعمل على الارتقاء بمستوى الخدمات المدنية المقدمة للحجيج، مثل: الرعاية الصحية، وخدمات السقيا، وتوفير المظلات، والمبرات الخيرية.
 
وفيما يأتي عرض لنماذج من أهم إنجازات الملك عبدالعزيز في هذا المجال:
 
1) إنشاء المديرية العامة للحج:
 
أصدر الملك عبدالعزيز أمرًا بإنشاء المديرية العامة لشؤون الحج لتتولى تقديم خدماتها لضيوف بيت الله الحرام، وكان ذلك في عام 1365هـ / 1946م، وبدأت المديرية تضطلع بمهماتها في خدمة الحجيج وتسهيل أدائهم لنسكهم وسماع شكاواهم والعناية بهم مدة إقامتهم في الأراضي المقدسة، وأصدرت لذلك بعض الأنظمة والتعليمات؛ مثل تنظيمات سيارات الحجاج، وتنظيمات أعمال المطوفين والوكلاء، كما امتدت خدماتها لتشمل الاعتناء الصحي بالحجيج فاستعانت بإدارة الصحة العامة لإعداد بعض النصائح والتوجيهات والإرشادات الطبية التي تبصِّر الحجيج بما يجب عليهم التمسك به للحفاظ على صحتهم وتجنب العدوى.
 
وكانت توجد وزارات وَجِهات رسمية يرتبط جزء من عملها بالمديرية العامة للحج، فهي تعينها في أداء عملها حسب اختصاصها، منها: وزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، ووزارة الصحة، ووزارة المالية، وإدارة البلديات والمياه، ورؤساء الزمازمة بمكة، ورؤساء المطوفين وهيئاتهم بمكة، ومديرية الأوقاف بمكة المكرمة وجدة، ومكتب السفر والإقامة، والجمارك، ونقابة السيارات، وهيئة الأدلاء بالمدينة المنورة، وهيئة المراقبة بجدة، ووكلاء شركات الطيران. وقد تضمَّن قرار إنشاء المديرية العامة للحج أن تقدم هذه الدوائر للمديرية الدعم والمعاونة الفعالة التي تكفل حسن أدائها لأعمالها.
 
وقد تشكلت المديرية العامة للحج - ومقرها الرئيس جدة - من: الإدارة العامة، والإحصاء والتسجيل، ومكتب الطوائف والحسابات، والمراقبة والترجمة والإرشاد في الموانئ، وقسم الضائعات والوفيات.
 
وفي مدينة مكة المكرمة تكونت من: الإدارة، ومكتب الاستعلامات، وإدارة مجلة الحج، والضائعات والوفيات والإرشاد، وهيئة للكشف على سيارات نقل الحجيج، وهيئة لتمييز قضايا المطوفين، وهيئة للكشف على سكن الحجاج.
 
وتتحدد اختصاصات المديرية العامة للحج في: استقبال وسائط نقل الحجيج (البواخر والطائرات) وإرشادهم إلى ما يجب عليهم فعله، ونقلهم إلى مدينة الحجاج والإشراف على سكناهم، والإسهام في العناية الصحية بهم، والاهتمام بأمور ترحيلهم وتنظيمها، وإيواء التائهين وإرشادهم، والإشراف على أعمال الطوافة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، وربط الصلة مع الإدارات والجهات الرسمية في كل ما يختص بأعمال الحج  . 
 
وقد أصدرت المديرية العامة للحج "مجلة الحج" بعد عام من إنشائها بهدف توعية الحجاج وتعريفهم بمناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة، وبيان حقائق الإسلام ومحاسنه والدعوة إلى تطبيق منهجه في الحياة لمعالجة مشكلات المسلمين في كل المجالات، والدعوة إلى وحدة المسلمين وتآخيهم وتضامنهم، كما أنها كانت حلقة وصل بين إدارة الحج وبين الحجيج، يطَّلعون فيها على الأنظمة ويعرفون من خلالها الحقوق والواجبات  . 
 

العناية بالحرمين الشريفين

 
بعد ضم الحجاز واستقرار الأوضاع فيه عام 1344هـ / 1926م بادر الملك عبدالعزيز بعمل الإصلاحات والترميمات اللازمة للحرمين الشريفين  ، فأصدر أمره إلى مدير الأوقاف " بترميم عموم الخراب الواقع في جدار المسجد وأعمدته، وإصلاح المماشي وحاشية المطاف وعموم الأبواب، وطلاء مقام إبراهيم الخليل عليه السلام بالدهان الأخضر، وكذلك الأساطين النحاسية الواقعة حوالي المطاف، وغير ذلك من الإصلاحات اللازمة للمسجد الحرام، وتمت هذه العمارة بكامل السرعة لحلول موسم الحج 1344هـ "  . وفي العام الذي يليه عَمِلَ الملك عبدالعزيز سبيلاً من ماء زمزم بثلاث نوافذ على ارتفاع قامة الواقف إلى صدره، فكان في ذلك راحة لقاصدي البيت الحرام، وفي الوقت نفسه أمر الملك عبدالعزيز بتجديد عمارة السبيل القديم، وزاد على ذلك أن أمر بأن يُرصَف شارع المسعى من الصفا إلى المروة، فشُكِّلت لذلك هيئة تضم عددًا من كبار أهل العلم والخبرة والدراية، وقررت الهيئة " أن يكون فرش المسعى بالحجر الصوان المربع، وأن يُبنى بالنورة، فابتدأ العمل أولاً بهدم عموم النواتي التي على ضفتَي شارع المسعى من مبتداه إلى منتهاه...، فأصبح شارع المسعى في غاية الاستقامة وحسن المنظر، وصار المطوِّفون بين الصفا والمروة يؤدون نسكهم بكمال الراحة من وحل الشارع والغبار"  . ومما يُحمد للملك عبدالعزيز أنه في عام 1344هـ / 1926م أمر بإبطال ما كان قائمًا في المسجد الحرام من تعدد الجماعات على المذاهب الفقهية المختلفة، وأمر باجتماع المسلمين على إمام واحد، فقضى بهذا الأمر على ما كان سائدًا في المجتمع المكي وغيره من المجتمعات الإسلامية الأخرى نتيجة التتبع المبالَغ فيه من بعضهم لمذهبه دون قبول للمذاهب الأخرى.وكان الملك عبدالعزيز قد أمر في عام 1346هـ / 1927م بإجراء كثير من الترميمات والزيادات على مباني الحرم المكي، شملت فرش أروقة الحرم من جهاته الأربع والزيادات والمماشي بالحجر، وإصلاح الأبواب وطلاءها، وطلاء جدران الحرم وأعمدته... وغير ذلك من الإصلاحات والترميمات. وكان ذلك العمل قد استغرق نحو عام كامل، وقد أنفق الملك على ذلك العمل ما يزيد على ألفَي جنيه ذهبي، وهو مبلغ كبير قياسًا بمستوى المعيشة والاقتصاد آنذاك.وفي شعبان من عام 1347هـ / 1929م أمر الملك عبدالعزيز بتجديد الإضاءة في المسجد الحرام وزيادتها حتى بلغت ألف مصباح، فشملت الإضاءة بالكهرباء معظم المسجد الحرام.وفي عام 1352هـ / 1933م صدر أمره بتركيب ساعة كبيرة بارتفاع خمسة وعشرين مترًا بجانب المسجد الحرام، وكانت تُعد أول ساعة وُجدت في الحجاز بهذه الصفة والضخامة والضبط، كما كانت هي الساعة الرئيسة للمسجد الحرام التي يُعتمد عليها في التوقيت. كما أمر في السنة التالية بعمل ترميمات وإصلاحات كثيرة في مبنى المسجد الحرام  . وهكذا ظل الملك عبدالعزيز يولي الحرم المكي الشريف جُلَّ عنايته، ويوفر ما يحتاج إليه من توسعة أو إصلاحات أو خدمات مختلفة، وظل على هذا النهج طيلة فترة حكمه، وقد أعلن في أواخر عهده عن المشروع الكبير لتوسعة الحرم المكي الذي شُرع في تنفيذه، وأُكمل بعد ذلك في عهد الملك سعود.أما المسجد النبوي الشريف فقد تنوعت عناية الملك عبدالعزيز به بين أعمال الترميمات والصيانة  ، وإيصال الخدمات والتوسعة. فقد بدأت الترميمات والصيانة منذ أن زار الملك عبدالعزيز المدينة المنورة لأول مرة عام 1345هـ / 1927م، إذ أمر بتنفيذ ما يحتاج إليه المسجد من الترميمات، وفي عام 1348هـ / 1929م رُفعت إلى جلالته حاجة بعض أسطوانات المسجد إلى تدعيم، فأمر بإجراء اللازم، وشُدَّت الأسطوانات بأسورة حديدية قوية، كما أُجري بعض الإصلاحات والترميمات الأخرى في أرضية المسجد وفي الأروقة. وفي عام 1350هـ / 1931م تم بعض الإصلاحات الأخرى في بعض الأعمدة والسواري الشرقية والغربية  . وظهرت في عام 1368هـ / 1949م حاجة المسجد النبوي إلى الإعمار، فأمر الملك عبدالعزيز بدراسة وضع المسجد النبوي، ورُفع تقرير مفصل عنه. وبعد أن اطَّلع على التقرير المطلوب - المبني على دراسات علمية أجراها مجموعة من ذوي الخبرة - وافق عليه وأصدر أمره بالمضي قدمًا في المشروع الذي تطلَّب هدم بعض المباني المجاورة للمسجد لضم مزيد من المساحات إليه، وأمر بنـزع الملكيات اللازمة وتعويض أصحابها بالعدل والإنصاف.وفي الخامس من شهر شوال من عام 1370هـ الموافق 1951م بدأت الخطوات العملية لتنفيذ المشروع المقترح بالهدميات اللازمة، وبلغ المشروع من الضخامة والمتانة حدًا تطلَّب لتنفيذه خمس سنوات، كان خلالها الملك عبدالعزيز قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، فقام الملك سعود بن عبدالعزيز بإكمال المشروع الذي انتهت خطواته التنفيذية في نهاية شهر صفر من عام 1375هـ / 1956م، وافتُتح بعد التوسعة في الخامس من ربيع الأول من العام نفسه، إذ أُقيم حفْل كبير بمناسبة انتهاء المشروع الكبير الذي يُعد نقلة تاريخية كبيرة في تاريخ عمارة المسجد النبوي؛ فقد رُمِّمَ جزء من المبنى القديم، وهُدِم وأُعيد بناء 7426م  من مساحته القديمة، وبُنيت خلال هذا المشروع مساحة التوسعة الجديدة التي زادت من مساحة المسجد 4206م  جديدة كاملة، ليصبح مسطحه الإجمالي بعد الهدميات وإعادة البناء والتوسعة الجديدة 72361م  . 
 
3) العناية بالحجيج:
 
لقد اهتم الملك عبدالعزيز بالحجيج وسعى إلى التيسير عليهم بكل السبل، ومن ذلك أنه أمر في شهر رمضان 1371هـ / مايو 1952م بإلغاء رسوم الحج التي تُؤخذ منهم، وكانت هذه خطوة مهمة منه زادت من تمكين المسلمين في جميع أنحاء العالم من تأدية فريضة الحج، وقد أشاد زعماء المسلمين والصحف في العالم الإسلامي بهذه الخطوة من الملك عبدالعزيز.كما أُنشئت في العام نفسه مدينة الحُجاج بالقرب من ميناء جدة، إضافة إلى أنه أمر بإيصال البرقيات والرسائل التي تأتي من الحجيج باسم الملك عبدالعزيز - متضمنةً شكاوى أو غير ذلك - إليه مباشرةً، وهو بذلك يجعل كل شخص له علاقة بالحجاج وشؤونهم لا يتوانى في خدمتهم وأداء عمله خير أداء؛ لأن في استطاعة أي حاج أن يوصل شكواه إلى الملك شخصيًا  . 
 
4) تأسيس أول مصنع لكسوة الكعبة:
 
أمر الملك عبدالعزيز بتجهيز كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، فسارع الذين خُصِّصوا لهذا الأمر بعمل "كسوة من الجوخ الأسود الفاخر، مبطَّنة بالقلع القوي، وعَمَل حزام الكعبة بآلة التطريز، وكُتبت الآيات عليه بالقصب الفضي المموه بالذهب الوهاج، مع ستارة الباب، ولم يأتِ اليوم الموعود لكسوة الكعبة وهو يوم النحر 10 من ذي الحجة إلا والكعبة المعظمة لابسة تلك الكسوة التي عُملت في بضعة أيام"  . 
 
ويبدو أن نجاح العمل في تجهيز الكسوة داخل مكة المكرمة والرغبة الكبيرة في خدمة بيت الله الحرام جعلا الملك عبدالعزيز يفكر جديًا في تأسيس دار خاصة للكسوة، وهو ما جرى عام 1346هـ / 1927م، وعُدَّت هذه الدار أول دار أُسست لحياكة كسوة الكعبة المعظمة بمكة المكرمة. وقد كُتب على تلك الكسوة التي صُنعت في ذلك العام:
 
"هذه الكسوة صُنعت في مكة المباركة المعظمة بأمر خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، أيده الله تعالى بنصره، سنة 1346هجرية على صاحبها أفضل التحية وأتم التسليم"  . 
 
ج) عنايته بالقضاء والحسبة:
 
1) التنظيم القضائي:
 
نبع اهتمام الملك عبدالعزيز بالقضاء وتنظيمه من عاملَين؛ أحدهما: أن الكيان الذي شيده ديني المنشأ والتوجه تتبوأ فيه الشريعة الإسلامية مكانًا سامقًا، والثاني أن الملك كان مقتنعًا بأن إشاعة العدل هي أساس الاستقرار في ربوع دولته وحفظ كيانها، والعدل في مفهومه هو القائم على تطبيق الشريعة في جميع مظاهرها.وقد كانت الأوضاع القضائية قبل انضمام الحجاز للدولة تتسم بالبساطة في الأداء وفي طريقة إصدار الأحكام، كما كانت تتسم بتعدد المذاهب الفقهية التي يتأثر بها القضاء؛ ففي نجد ساد المذهب الحنبلي، وفي الأحساء تعددت المذاهب لكن كان المذهب الرسمي للقضاء هو الحنفي، وكذلك الحال في الحجاز وغيرها  . 
 

 توحيد مصادر الأحكام

 
لقد ورث الملك عبدالعزيز التجربة القضائية التي كانت موجودة في الحجاز، فأخذ ما فيها من إيجابيات وحاول أن يعالج ما فيها من سلبيات، وقد كان تعدد المذاهب الذي سارت عليه المحاكم في الحجاز قبل ضمها من معوقات الفصل في القضايا، إضافة إلى طول إجراءات المرافعات الشرعية التي تؤخر إصدار الحكم أحيانًا، فبدأ الملك عبدالعزيز في توحيد مصادر الأحكام وجمع الجميع على مذهب واحد، لكنه نفَّذ ذلك بالتدرج، فأبقى على بعض التنظيمات القضائية القائمة التي لا تتعارض مع الشرع، ومهَّد لتوحيد المذاهب باستصدار فتاوى وتشجيع نشر مقالات تدعو إلى وحدة المذهب شارك فيها علماء من الأزهر، ثم أخذ في إعادة تشكيل المحاكم وترتيب أوضاعها الإدارية، وأمر بإصدار تعليمات تنظم الإجراءات الإدارية، وتوزع العمل بين الجهات القضائية، بما يحقق العدالة ويضمن سلامة التطبيق دون مساس بجوهر الشريعة.كما حرص الملك عبدالعزيز على استقلال القضاء وإبعاده عن التناقضات الإدارية، وقد اتخذ بعض الإجراءات التي توجه المواطنين إلى احترام القضاة وما يتخذونه من أحكام. وظل نظام المحاكم على هذه الحال حتى صدر مرسوم نظام (أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها) عام 1346هـ / 1927م، والذي نص على تشكيل المحاكم بصورة تراعي التخصصات والتدرج في إجراءات الأحكام وتمييزها، كما أخذ بتعدد القضاة في المحكمة الواحدة، وبعد مرور سنة على التنظيم الجديد للمحاكم والدوائر الملحقة بها صدر أمر ملكي ينص على "أن مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبق على المفتَى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل" لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين من بعده بذكر الأدلة، أما إذا وجد مشقة في تطبيق الحكم على المذهب الحنبلي أو مخالفة مصلحة عامة نُظر في المذاهب الأخرى  . 
 

 تعيين القضاة وحصانتهم

 
أدرك الملك عبدالعزيز أن قوام العدل إنما يتم في وجود القضاء الصالح النـزيه؛ فأولى موضوع اختيار القضاة اهتمامًا خاصًّا؛ فكان يختار القضاة من أعف العلماء وأصلحهم، وكان يحيطهم برعايته، فجعل تعيينهم وفصلهم ونقلهم متعلقًا به شخصيًا، ولم يسمح لأحد من أسرته أو كبار المسؤولين في دولته بالتدخل في شؤونهم أو في شؤون القضاء، وخير ما يصور رعاية الملك عبدالعزيز للقضاة: تصنيفهم في السلم الوظيفي لموظفي الدولة؛ فعندما صدرت التعليمات المؤقتة عام 1345هـ / 1927م كان القضاة ضمن المجموعة الأولى من مسؤوليات الدولة، وكانت مرتَّبات القضاة الشهرية عالية إذا قيست بغيرهم من الموظفين، وكان يُخصَّص للقضاة عوائد سنوية علاوةً على مرتباتهم، ويعفيهم من بعض الرسوم التي كانت تُؤخذ من موظفي الدولة.وكذلك كان عزل القضاة من صلاحية الملك عبدالعزيز شخصيًا، ويرتبط بهذا تشديد الملك عبدالعزيز على حصانة القضاء، فأول بلاغ أصدره بعد أن دخل الحجاز كان يقضي بعدم التدخل في شؤون القضاة والقضاء، ويحذر من اتهام القضاة بالرشوة أو الافتراء؛ حمايةً لهم من الادعاءات الباطلة.وهذه الرعاية والمكانة للقضاة أعطتهم الإحساس بالأمان على مستقبلهم الوظيفي، وأشعرتهم بالحرية في العمل القضائي دون الخوف من تدخل أحد في شؤونهم. ومما أكسب القضاة الاحترام أنهم كانوا على قدر كبير من الصلابة في الحق، فأحيانًا كانوا يعارضون أوامر الملك نفسه كيلا تخرج عن أحكام الشرع  . 
 
 الإدارة القضائية
 
مر تشكيل إدارة القضاء والدوائر التابعة لها بمراحل تنظيمية متتابعة أدت إلى تكاملها بعد أن وُضعت لها التشكيلات التي تمكِّنها من القيام بمسؤولياتها، وسُنَّت لها النظم الإدارية التي تساعدها على أداء واجباتها.والأجهزة القضائية المعنية بأمور القضاء هي: رئاسة القضاء، وهيئة التدقيقات الشرعية، والتفتيش القضائي، والادعاء العام، وبيوت المال، والمحاكم الشرعية الكبرى، ومحاكم الملحقات، والمحاكم المستعجلة، والمحاكم المؤقتة، ومجالس العرف، وكتابة العدل، ويُلحق بها محاكم إدارية هي: المجلس التجاري بجدة، ومحاكم الجمارك الإدارية، وديوان المحاكمات العسكرية، والمجلس التأديبي بالأمن العام، كما يرتبط بها عمل الهيئات الدينية مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
رئاسة القضاء:
 
كانت رئاسة القضاء هي الدائرة صاحبة الرقابة التامة على الدوائر الشرعية والهيئات الدينية، وقد بدأت نواة تشكيلها بعد أن دخل الملك عبدالعزيز مكة المكرمة؛ إذ رأى تكوين إدارة لمحاكمها، وقد أُحدث في 12 / 2 / 1344هـ الموافق 1 / 9 / 1925م منصب رئيس القضاء.وعندما تشكلت النيابة العامة في 28 / 6 / 1344هـ الموافق 13 / 1 / 1926م كانت رئاسة القضاء من ضمن الدوائر التي أُلحقت بالنيابة العامة، وصدر تشكيل مؤقت لإدارة القضاء والمحاكم الشرعية في 18 / 8 / 1344هـ الموافق 3 / 3 / 1926م، وأصبحت الرئاسة تتكون من ديوان ومكتب للفتوى، ثم أصبحت رئاسة القضاء تابعة لمجلس الوكلاء بعد تشكيله عام 1350هـ / 1931م.ومراعاةً لتجانس العمل القضائي تنظيمًا وإشرافًا فقد رُبطت الدوائر القضائية برئاسة القضاء التي أصبحت تشرف على دوائر متخصصة أُنشئت حسب ما تقتضيه المصلحة العامة.ولم يكن في نجد والمنطقتين الشرقية والشمالية قبل عام 1372هـ / 1952م إدارة تُعنى بشؤون القضاء وما يلحق بها، كما لم تعرف تقسيمات المحاكم ودرجاتها، ما عدا إنشاء محكمة مستعجلة بالرياض عام 1369هـ / 1949م. ولم تتأثر محاكمها كثيرًا بالتنظيمات الإدارية التي استُحدثت في الحجاز، وكان مرجع القضاة في نجد والمنطقتين الشرقية والشمالية إلى الملك عبدالعزيز نفسه؛ هو الذي يُعيِّنهم وهم يراجعونه في معظم شؤون القضاء. واستمر هذا الوضع إلى عام 1372هـ / 1952م عندما أُنشئت في نجد إدارة للإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية  . 
 
 هيئة التدقيقات الشرعية
 
 
تشكلت هذه الهيئة لتمييز الأحكام عام 1346هـ / 1928م باسم (هيئة المراقبة القضائية)، ثم تغير اسمها إلى (هيئة التمييز) عام 1350هـ / 1931م، ثم سُمِّيت (هيئة التدقيقات الشرعية) عام 1357هـ / 1937م  . 
 
 التفتيش القضائي
 
بدأت نواة التفتيش القضائي مع صدور التشكيلات المؤقتة للمحاكم الشرعية عام 1344هـ / 1926م، فقد نصت على أن يقوم رئيس القضاء وقاضي مكة المكرمة بالتفتيش على المحاكم الشرعية في مكة المكرمة مرتين في الشهر.وأُنشئت إدارة التفتيش القضائي عام 1351هـ / 1932م، وتنحصر مهمتها في تقصي جوانب الخلل الإداري في المحاكم والدوائر الشرعية  . 
 
الادعاء العام
 
كان مفتشو المحاكم الشرعية في بداية الأمر يقومون بالادعاء العام حتى صدر أمر ملكي في 6 / 4 / 1353هـ الموافق 18 / 7 / 1934م بالموافقة على الضوابط التي وضعها مجلس الشورى لتنظيم قواعد الادعاء العام، وبموجبها انتقلت مهمة الادعاء العام من رئاسة القضاء إلى الشرطة، وأصبح للادعاء العام مكتب مستقل يتبع مدير الشرطة مباشرةً، ولكنه يخضع لتعليمات المحاكم من الناحية الشرعية فيما يخص إقامة الدعوى  . 
 
 بيوت المال
 
تضمن مرسومُ تشكيل المحاكم الشرعية عام 1346هـ / 1927م استحداث إدارة عُنيت بحفظ أموال الغائبين سُمِّيت بيت المال، وتبعت بيوتُ المال المحاكمَ الشرعية إداريًا ووكالةَ المالية ماليًا.وقد صدرت عام 1349هـ / 1930م إجراءات لتنظيم بيوت المال بإدارة واحدة مركزها مكة المكرمة، فرُبطت بيوت مال الملحقات بالحجاز بمأمور بيت مال مكة المكرمة إداريًا، ثم أُعيد النظر في هذا الارتباط عام 1357هـ / 1937م فأُلحق كل بيت مال بالمحكمة الشرعية التي في منطقته، غير أن الحسابات والإجراءات المالية ظلت خاضعة لتعليمات وزارة المالية التي ينوب عنها بيت مال مكة المكرمة  . 
 
المحاكم الشرعية
 
المحاكم الشرعية هي الجهة القضائية الأساسية في المملكة وصاحبة الولاية العامة والفصل في جميع المنازعات. وقد أصدر الملك عبدالعزيز مرسوم (أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها) في 4 / 2 / 1346هـ الموافق 2 / 8 / 1927م، حيث قسم المرسوم المحاكم إلى أربع فئات، الأولى: هيئة المراقبة القضائية (وهي هيئة التدقيقات الشرعية، وقد تقدم الحديث عنها)، والثانية: المحاكم الشرعية الكبرى، والثالثة: المحاكم المستعجلة، والرابعة: محاكم الملحقات. ومن الدوائر المساعدة للقضاء: المحاكم الشرعية المؤقتة، ومجالس العرف، وكتابة العدل.
 
 كتابة العدل
 
كتابة العدل من الدوائر المساعدة للقضاء، وهي ملحقة بالمحاكم الشرعية، وأول تنظيم وُضع لكتابة العدل كان مع مرسوم تشكيل المحاكم عام 1346هـ / 1926م، وابتدأ بثلاثة مكاتب للعدل؛ واحد في كل من: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة.
 
 المحاكم الإدارية
 
أخذ الملك عبدالعزيز بمثل هذا النوع من التنظيم القضائي للمحاكم الإدارية لما فيه من فوائد تتمثل في المصالحة بين الجماعات المتنازعة، وسرعة الفصل في القضايا، وفي ذلك تخفيف عن المحاكم الشرعية من العبء الإداري وخدمة للمجتمع.ومن المحاكم الإدارية: محاكم الجمارك، وديوان المحاكمات العسكرية، والمجلس التأديبي بالأمن العام، كما يُعد منها أيضًا المجلس التجاري بجدة وفرعه بينبع  . 
 
 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 
أُنشئت في عهد الملك عبدالعزيز هيئات ودوائر ذات نشاط ديني تمارس خدمات قضائية تخفف عن المحاكم الشرعية كثيرًا من الأعباء، إضافة إلى ما تقوم به من وعظ وإرشاد بحكم حضورها الميداني في الأسواق والقرى، وأهم هذه الهيئات: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمطاوعة والوُعَّاظ (المرشدون الدينيون)  . وقد أقر الملك عبدالعزيز أعمال الحسبة والاحتساب وأيدها، ومع توسع الدولة وازدياد الاستقرار ازداد اهتمام الملك عبدالعزيز بالحسبة والاحتساب، وشد من أزر القائمين عليها، وطالبهم بأن يستمروا في عملهم، وأعطاهم مزيدًا من الصلاحيات، وأمدهم بمزيد من الدعاة. وتعزز موقف الهيئات فيما بعد بصدور عدد من الأنظمة الأخرى المنظمة والمساندة لأعمالها  . وقد أولى الملك عبدالعزيز الحسبة عنايته التامة بعد ضم الحجاز مباشرة واستقرار الأحوال فيها، فقد طالَبَ الأعيان والعلماء في مكة المكرمة في خطابه العام الذي ألقاه بحضورهم عشية دخوله إليها بالاهتمام بهذا الجانب، وترشيح من يرونه للقيام بهذه المهمة، وفي الوقت نفسه كلف الملك عبدالعزيز بعض العلماء وطلبة العلم ببعض المهمات الخاصة بالحسبة والدعوة، وإزالة بعض المظاهر المخالفة لمبادئ الدعوة الإصلاحية  . وكما كان يُرسل الوُعَّاظ والمرشدين إلى القرى وأمكنة تجمعات سكان البادية مع بداية تكوين الهجر عام 1330هـ / 1912م، فقد كان الملك عبدالعزيز يرسل أيضًا العلماء إلى المناطق ذات الكثافة السكانية والتي يضمها تحت مظلة حكمه؛ ويرسل الوُعَّاظ والمرشدين إلى القرى والهجر، وكان المطوعون والمرشدون مرتبطين بالمحاكم الشرعية في مناطق عملهم، إلا في مكة والمدينة حيث ارتبطوا برئاسة القضاء.
 

 جهوده في المجال الاجتماعي

 
إن المتتبع لجهود الملك عبدالعزيز في المجال الاجتماعي لا بد له من أن يتوقف أمام واحدة من الخطوات الاجتماعية التي قام بها في وقت مبكر من تاريخ تأسيس المملكة، بل قبل اكتمال بناء الوحدة الوطنية الكبرى، ذلكم كان مشروع توطين البادية وإنشاء الهجر الذي يُعد من أعظم إنجازات الملك عبدالعزيز المبكرة في المجال الاجتماعي.وتقوم فكرة المشروع على اختيار مواقع - سُمِّيت (هجرًا) - في مختلف مناطق المملكة والعمل على جعلها تجمعًا لاستيطان سكان البادية من المناطق القريبة فيها. ولتشجيعهم على خطوات الاستيطان بادر بدعم هذه الهجر بما تحتاج إليه من متطلبات حضرية بشرية ومادية؛ مثل: إرسال الدعاة والمرشدين والعلماء لتعليم الناس أمور الدين ومبادئ التعليم، وتجهيز الهجر بالمساجد وبموارد المياه لتوفير سبل الحياة وزراعة الأراضي، وليتمكن المستوطنون من التحول التدريجي من حياة البداوة إلى الاستقرار  .وتشير الدراسات إلى أن عدد الهجر التي نشأت في عهد الملك عبدالعزيز تجاوز 200 هجرة في مختلف مناطق المملكة، تركز معظمها في وسط البلاد وشرقيها، وهي المناطق التي كانت مجالاً لحركة سكان البادية  . وقد كان لهذه الهجر أثر كبير في المملكة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، لا يتسع المقام للحديث عنها، ويمكن إيجاز ذلك بالقول: إن الهجر كانت أساسًا لعدد من المدن السعودية الحديثة، وسببًا في تحول المجتمع السعودي من حياة البداوة إلى الحياة الحضرية، وللهجر آثار اقتصادية منها رفع المستوى الاقتصادي للفرد السعودي وتنويع وسائل دخله بعد أن كانت مقصورةً على حياة الرعي، وللهجر أثر تعليمي كبير؛ فقد أسهمت في نقل الفرد من حياة الجهل والأمية إلى العلم بأمور دينه ودنياه، وفي المجال العسكري كان للهجر أثر في وضع النواة الأولى لطلائع الجيش السعودي (الإخوان)، ما كان له أثر في تقوية جانبه في حروب التوحيد  . 
 

 جهوده في مجال الرعاية الصحية

 
كانت الرعاية الصحية أحد الجوانب التي عُني بها الملك عبدالعزيز، فقد كان يقوم بين حين وآخر باستقدام بعض الأطباء ليقوموا بجولات في بعض مناطق المملكة لعلاج المرضى، وبعد ضم الحجاز سخَّر الملك عبدالعزيز ما كان متاحًا فيها من خدمات صحية في خدمة المواطنين والمقيمين، وفي خدمة الحجيج والمعتمرين، وسعى في الوقت نفسه لبذل جهده لتطوير هذه الخدمات ونشرها لتشمل بقية مناطق المملكة.فقد أنشأ الملك عبدالعزيز في عام 1343هـ / 1925م مصلحة الصحة العامة، وأوكل إليها مهمة الاعتناء بالمجالات الصحية وتطويرها  ،  وفي عام 1344هـ / 1926م صدر أول أمر ملكي بإنشاء مديرية الصحة والإسعاف، وكان من أهم واجباتها يومئذٍ: الاهتمام بصحة الفرد رجلاً كان أو امرأةً أو طفلاً، والاهتمام بالبيئة بتأسيس البلديات وتطهير المرافق العامة في طول البلاد وعرضها، والاهتمام بصحة الحجاج والوافدين والمسافرين برًا وبحرًا، وإصدار الأنظمة الصحية المعترَف بها دوليًا علاجيًا ووقائيًا  .وقد صدر أول تنظيم لتلك الإدارة في العام نفسه، ثم توالى بعد ذلك إصدار الأوامر والأنظمة الصحية، مثل: أمر الترخيص ببيع الأدوية، ونظام الصحة العامة والإسعاف، ونظام التطعيم ضد الجدري، ونظام الطبابة والصيدلة، والأمر السامي باشتراك المملكة في المجلس الصحي الدولي، ونظام الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المُعْدِية، ونظام المستشفيات، ونظام الاتجار بالأدوية والعقاقير الطبية، ثم نظام البلديات وعلاقتها بالصحة العامة، ونظام مركِّبي الأسنان  . وفي المجال التطبيقي والفني طُورت المراكز الصحية التي كانت موجودة قبل حكم الملك عبدالعزيز، وتحديثها، ثم فَتْح كثير من المراكز الصحية والمستشفيات في مختلف مناطق الوطن، وتطويرها وتزويدها بما يستجد من تقنيات ومختبرات حديثة، مع استقدام الأطباء للعمل فيها؛ ففي مكة المكرمة أُدخلت تعديلات وتوسعات لمستشفى أجياد الذي كان قد تأسس عام 1288هـ / 1871م، وكذلك في مستشفى باب شريف في جدة الذي تأسس عام 1308هـ / 1890م، وفي الرياض فُتح مستوصف جديد عام 1351هـ / 1932م، وفي المدينة المنورة كان هناك مستوصف واحد فقط فأمر الملك عبدالعزيز بإنشاء مستشفى فيها عام 1356هـ / 1938م، وفي العام نفسه دخلت الخدمات الطبية إلى حائل، وقبل بداية عام 1370هـ / 1950م كانت الخدمات الطبية على شكل مستوصفات قد شملت كلاً من: أبها، وجازان، وعنيزة، والهفوف، والدمام، وأملج، والوجه، وينبع، والقطيف. أما بقية المدن والقرى فكانت الفرق الطبية المتجولة تقوم بمهمة العلاج والتطعيم الوقائي بصفة دورية، وفي عام 1371هـ / 1951م افتتح المستشفى العربي السعودي في جدة وهو من المستشفيات الخاصة التي شجعتها الحكومة ودعمتها. وفي عام 1372هـ / 1952م اكتمل بناء مستشفى الزاهر بمكة المكرمة الذي أصدر الملك أمرًا بإنشائه عام 1366هـ / 1947م  .  وقد عمت الإنشاءات والتوسعات المستشفيات والمراكز الصحية في الرياض والخرج والمنطقة الشرقية والمدينة المنورة والطائف وغيرها.كما قامت المملكة بواجباتها في توفير الخدمات الصحية والوقائية لرعاية الحجيج والمعتمرين، فقد أنشأت المحاجر الصحية الوقائية في مختلف منافذها البرية والبحرية  . 
 

جهوده في مجال الزراعة والمياه

 
كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - منذ بداية عهده يشجع كل نشاط يتعلق بقطاعَي الزراعة والمياه ويهتم به، كما كان مقتنعًا بأن نجاح أي بلد إنما يتوقف على مدى إنتاجه الوطني. وقد كانت الزراعة في بداية عهده زراعة تقليدية؛ ولذا فقد اهتمت حكومته بتوفير كل جهد ممكن في سبيل النهوض بالزراعة وتطويرها بأحدث الطرق العلمية الممكنة.ونوجز فيما يأتي أهم أعمال الزراعة والمياه التي أنجزتها المملكة في عهد الملك عبدالعزيز:
 
1) الزراعة:
 
وافق الملك عبدالعزيز في بداية عام 1346هـ / 1927م على إعفاء كل المعدَّات الزراعية من الرسوم الجمركية؛ مساعدةً وتشجيعًا للمزارعين. وفي 1349هـ / 1930م صدر أمر ملكي بالموافقة على تنظيم الأراضي البور وإحيائها، وإخراج حجج استحكام لها. وفي عام 1351هـ / 1932م صادقت الحكومة على استيراد الآلات والمعدَّات الزراعية على نفقتها لتوزيعها على المزارعين بشروط سهلة الدفع.وكان قد صدر مثل ذلك في عام 1350هـ / 1932م قرار مجلس الشورى بالموافقة على توفير 120 ماكينة زراعية ومع كل ماكينة 50 جنيهًا لمزارعي القصيم والمدينة المنورة، على أن تُقسَّط أثمان المكائن والنقود على ست سنوات. وفي 1353هـ / 1934م صدر الأمر السامي بالموافقة على تنظيمات خاصة بعقود المساقاة وإيجار النخيل. وفي عام 1358هـ / 1939م أمر الملك بتعليم المزارعين أحدث الأساليب الزراعية مجانًا، وتقديم جميع الإرشادات اللازمة لحماية محصولاتهم من الآفات الزراعية. وفي عام 1360هـ / 1941م صدر قرار مجلس الشورى بالموافقة على إعفاء الأراضي الأميرية التي يُطلب إحياؤها بالزراعة من الرسوم. وفي عام 1362هـ / 1943م قدمت المساعدة والتشجيع لصغار المزارعين، فقد وُزِّعت عليهم المساعدات المالية، والبذور الزراعية، والدواب، وبلغت المساعدات المالية نحو مليون ونصف مليون ريال عربي، وبلغت كمية البذور أربعة آلاف كيس، وعدد الدواب أكثر من ألفين وخمسمئة دابة. وفي عام 1363هـ / 1943م صدر الأمر الملكي بالموافقة على التعليمات الخاصة بالمزارعين والخيوف والعيون، وتنظيم العلاقة بين صاحب العمل والأجير. وفي عام 1367هـ / 1948م وافق مجلس الشورى على إنشاء مصارف لإقراض المزارعين  . 
 
2)المياه:
 
استخدمت في عام 1350هـ / 1931م أول مضخة هوائية تُدار بالغاز مع كل معدَّاتها لاستخراج المياه، وركبت على مجرى عين الوزيرية بجدة، وفي العام نفسه استُخدمت لأول مرة في المملكة حفارة (أمبير ديزل)، وشغلت باليد لفحص المياه تحت الأرض، وذلك شرقي مدينة جدة، ووُضِع حجر الأساس لأول سد لحجز مياه الأمطار عن منطقة الحرم الشريف ومنازل الأهالي بأعالي مكة المكرمة في عام 1361هـ / 1942م، وبُني في العام التالي. وفي عام 1362هـ / 1943م حفرت أول بئر ماء ارتوازية، وكانت بئرًا فوارة، وتقع على الطرف الغربي من واحة الهفوف. وفي أوائل عام 1364هـ / 1945م قامت الحكومة باستيراد مضخات المياه وتوزيعها على المزارعين والمحتاجين مجانًا  . كان النقص الهائل في توفير مياه الشرب يتبوأ حيزًا كبيرًا من اهتمامات الملك عبدالعزيز، وكان التركيز الأوَّلي على مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ لتوافد حجاج بيت الله الحرام عليهما، وكذلك مدينة جدة بوصفها المدخل الرئيس لمعظم الحجاج. وقد بُذلت جهود كبيرة لتأمين المياه لهذه المدن الثلاث، واستُقدمت البعثات الجيولوجية والفنيون والخبراء العاملون في حقل المياه، وأُنفقت ملايين الريالات في سبيل الحصول على موارد ثابتة للمياه، وفيما يأتي عرض لأهم الهيئات والمصالح والإدارات الخاصة بالمياه في ذلك الوقت:
 
- مصلحة (الكنداسات) بجدة:
 
كانت الحكومة العثمانية قد عملت على استعمال المياه المقطرة في مدينة جدة؛ فهي تستقبل الحجاج، وفيها مقر قناصل الدول الأجنبية، وقد جلبت لذلك أول آلة مقطرة للماء (كنداسة)، واستمرت في عملها فترة قصيرة من الزمن، لكنها لم تكن تسد حاجة سكان جدة والوافدين إليها بالمياه، كما أنها تعطلت عدة مرات، وحينما لم تنفع كل المحاولات لإصلاحها قامت حكومة الملك عبدالعزيز باستيراد آلتين كبيرتين، رُكبتا وشُغلتا بطاقة إنتاجية قدرها 54 طنًا من الماء يوميًا، وكان ذلك عام 1348هـ / 1929م، وفي العام نفسه وأُصلح (كنداسة) ينبع، وفي بداية عام 1363هـ / 1944م أمر الملك بإنشاء آلة تقطير في مدينة جازان.ونتيجةً لتعدد المدن التي تستخدم آلات الت?
شارك المقالة:
102 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم