الاستيطان في فترة الممالك العربية القديمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الاستيطان في فترة الممالك العربية القديمة في المملكة العربية السعودية

الاستيطان في فترة الممالك العربية القديمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
لقد كُشف خلال العصور التاريخية   في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية عن دلائل لفعاليات تَوَاصُل حضاري نشطة، وتشاطر في عمليات إنتاج، أو تبادل لمختلف السلع، وكثير من منتجات الفنون والمصنوعات عبر عوامل مختلفة، بينها الهجرات، وعمليات التواصل البشري، والتلاقح الحضاري، وأنشطة تجارة المقايضة المحدودة، منذ العصر الحجري الحديث على الأقل، في حين زادت الأمثلة والدلائل الأثرية على ذلك خلال الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد  . وفي المملكة بخاصة، والجزيرة العربية بعامة؛ يمكن أن نعد النشاط التجاري الواسع من أهم المقومات الاستيطانية، فقد رشحت للازدياد المطَّرد مقومات عُمران لأمكنة محددة اصطُلح على تسميتها (المحطات التجارية). وتميَّزت بوقوعها على المسارات الرئيسة لطرق القوافل التجارية، وبوجود مسافات مناسبة بين كل منها، وهي في الغالب مسافات استحقاق قسط الراحة للمسافرين، والتزود بما يتوافر فيها من مياه، وقد استلزمت نشأة هذه (المحطات التجارية) في أراضي بعض القبائل أو بجوارها أن تسعى هذه القبائل إلى الانتفاع من نشاط تجارة العبور، فتحصل على حق مرور القوافل عبر أراضيها.
وقد اتخذت الحركة التجارية المتنامية عبر طرق التجارة القديمة في جزيرة العرب من الجمل العربي وسيلة النقل الرئيسة، وكان هذا الحيوان المفيد قد دُجِّن على أراضي الجزيرة العربية منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ولكن لا توجد دلائل ملموسة على استخدامه في النقل وحمل عروض التجارة المتجهة من جنوب الجزيرة إلى شمالها وإلى بلدان العالم القديم حتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد  ،  وهكذا فإن هذا النوع من الاستيطان قد عُرف منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وفي ارتباط وثيق بنشأة المحطات التجارية الأقدم في الجزيرة العربية.
لقد كان لهذا الاستيطان طابعه الخاص الذي تَمَثَّل في وجود طبقة معينة من المستفيدين من مشائخ القبائل ونوابهم، وبعض القائمين على الحراسة، وعدد مناسب ممن يقومون على خدمة قوافل التجارة وأصحابها ورعايتهم، فضلاً عن تجار محليين ووسطاء... وغيرهم. وهكذا شَكَّل المُكوِّن البشري لتلك المحطات التجارية النواة السكانية لما عُرف فيما بعد باسم (مدن القوافل التجارية)   في أرجاء متفرقة من أراضي المملكة، وعلى طول مسارات الطرق التجارية القديمة فيها.
وقد أسهم وجود هذه المحطات التجارية في تبلور عدد من سُلطات الشيوخ أو الزعامات القبلية التي كانت قد ظهرت من قبل في ارتباط بعمليات الاستيطان المبكرة  ؛  لتتحول مع مرور الوقت وحتمية التطور إلى "ممالك"   ذات نُظُم راقية نسبيًا، تمارس أنشطة سياسية، وفعاليات اقتصادية وأمنية؛ ما أدى مع الوقت إلى تطور اجتماعي متميز، يتسم ببعض أطر دويلات المدن (City - States) المناسبة لتجمُّع معطيات الحياة حول (مدينة) رئيسة، تدور في محيطها الجغرافي والسكاني عجلة حياة ذات طبيعة خاصة، وتحكمها قوانين محلية تتناسب مع حياة أهلها، وهذا النظام الجديد يتشابه - إلى حد كبير - مع ذلك النظام الذي عرفه السومريون في العراق القديم خلال الألف الثالث قبل الميلاد.
وعند تناول مسألة الاستيطان الشاملة في العصور التاريخية وفي فترة الممالك العربية القديمة في المملكة يتم تقسيم أراضيها إلى ستة أقاليم، تترابط مواقع كل منها من خلال معطيات أثرية وتاريخية متجانسة، وذلك على نسق التقسيم الذي تبنَّته خطة المسح الشامل لآثار المملكة، ونفذته وكالة الآثار والمتاحف منذ عقود  ،  وعليه فإن مناطق المملكة الثلاث عشرة القائمة في التقسيم الإداري الحالي أُدرجت - بشكل اصطلاحي تقريبي - ضمن أقاليم جغرافية على النحو الآتي:
 
أ - الاستيطان في الإقليم الشرقي:
 
ترجع أقدم الدلائل على سكنى الإنسان - التي رُصدت في الإقليم الشرقي من المملكة حتى الآن - إلى فترة مبكرة من العصر الحجري القديم، وتعود بداياتها إلى نحو 200.000 عام تقريبًا، فقد عُثر في واحة يبرين وما حولها على أدوات موستيرية الصنع تؤرِّخ لنهايات العصر الحجري القديم الأوسط، كذلك أُقِيمت معسكرات مؤقتة للصيادين خلال العصر الحجري القديم الأعلى، ومشارف العصر الحجري الحديث؛ بين عامَي 17.000 و 8500 ق.م تقريبًا، وذلك في بضعة مواقع من الربع الخالي  وواحة الأحساء. في حين وُجدت دلائل على الاستقرار الدائم في الإقليم الشرقي على ارتباط بالمراحل الأولى للعصر الحجري الحديث في الألف الثامن قبل الميلاد، وذلك في عدد من المواقع؛ من أهمها: عين قناص. وأبو خميس. والدوسرية، وتاروت  . وواحة يبرين... وغيرها، حيث عُثِر في أغلبها على بقايا مواضع أكواخ سكان المنطقة آنذاك، وقد كانت مقامة من أعواد الجريد والقصب ومُلَيَّسة بالطين من الداخل. واستمر تفاعل إنسان المنطقة مع بيئته خلال فجر التاريخ، ابتداءً من بدايات الألف الرابع قبل الميلاد، إذ سكنت أعداد كثيفة من الناس عددًا من المواقع في المنطقة، منها: واحة يبرين التي كشف في محيطها عن عدد ضخم يُقدَّر بالآلاف من المدافن الركامية. ما يُعد دليلاً على كثافة مستوطني المنطقة آنذاك  ،  ومن الفترة نفسها يتبلور دور واحة الأحساء ذات المياه الغزيرة والأراضي الخصبة، بوصفها مستوطنة مثالية توصَّلَ أهلها بخبراتهم الذاتية إلى تدجين الحيوان واستنبات البذور، وصنعوا أدوات زراعية تناسب معطيات حياتهم الجديدة، وتجاربهم ومحاولاتهم الناجحة في الاستفادة الكاملة من موارد بيئتهم الغنية  . 
ولم تلبث حضارة شرق المملكة أن قطعت بعد ذلك خطوات سريعة تنمُّ عن إبداع ثقافي كبير، وعملية تواصل حضاري فاعلة مع كثير من المناطق المجاورة في الخليج العربي ووادي الرافدين، فقد أضحى كثير من مواقعها - مثل: تاروت، وعين قناص، والدوسرية، وعين السيح، وأبوخميس... وغيرها - مراكز متميزة لحضارة العُبيد، وهي إحدى أهم حضارات شرق الجزيرة العربية في المرحلة الأخيرة من العصر الحجري الحديث، وبدايات فجر التاريخ.
وبالإضافة إلى بقايا فخار العُبيد فقد عُثِر في عدد من هذه المواقع على بقايا المساكن ودُور العبادة، وبعض الأعمال النحتية وبقايا المواقد، وأجزاء من أواني الحجر الصابوني، وكثير من الأدوات الحجرية، وبعض الرُّحي، وأدوات الزينة... وغيرها من الدلائل الأثرية المختلفة المؤكِّدة لوجود تلك الحضارة، وكذلك بقايا الأنشطة المتصلة بالزراعة والرعي التي توافرت في تلك المواقع، فضلاً عمّا عُثِر عليه من بعض أدوات صيد السمك، وبقايا كثيرة من صدف المحار؛ في بعض المواقع الساحلية في الفترة نفسها  ،  ما يشير إلى تطور خبرة الإنسان الذي استوطن هذه المواقع آنذاك، واستثماره كثيرًا من موارد بيئته البحرية.
وإجمالاً فإن موقع عين قناص يمثل ركيزة كبيرة لحضارة العُبيد شرق المملكة، إن لم يكن موطن نشأتها  ،  والحقيقة أن دلائل موقع عين قناص الأثرية والحضارية المختلفة تُعد مثالاً نموذجيًا متكاملاً لحضارة استقرار عايشتها مجموعة كبيرة من السكان الواعين والمتمرسين آنذاك.
ويظهر موقع تاروت بمعطياته الأثرية شاهدًا حضاريًا آخر على التواصل الوثيق بين مختلف مواقع شمال الخليج وشرقه، فكما وقف من قبل بمكوناته الأثرية شاهدًا على حضارات العُبيد؛ فهو يضم أيضًا تفصيلات معمارية ومعثورات أثرية متنوعة تؤرَّخ بمنتصف الألف الثالث قبل الميلاد. ومقابر متنوعة في موقع طريق الأطرش والرفيعة والربيعية تُؤرَّخ بالألف الثالث قبل الميلاد، كما عُثِر في الموقع أيضًا على أوانٍ فخارية تؤرَّخ بالنصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد  . 
وشهدت فترة الألف الثالث قبل الميلاد قيام عدد من المستوطنات المهمة شرق المملكة؛ في كل من: جنوب الظهران، وابقيق، ورأس القرية... وغيرها، ضمت مئات المدافن الحجرية مختلفة الطرز والأحجام، ومختلف المعثورات الفخارية وأدوات الزينة المحلية، وبقايا قنوات ري مائية متطورة تشير إلى مهارة هندسية أتقنها إنسان المنطقة عبر فترة زمنية طويلة، واستمرت حتى نهايات الألف الأول قبل الميلاد  . 
ويبرز خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد دور الجرهاء   في حركة التطور الحضاري لإنسان شرق المملكة. إذ تشير رواية المصادر اليونانية إلى أنها كانت آنذاك مركزًا تجاريًا مهمًا في شرق المملكة. ونشط سكانها في نقل تجارة الجزيرة العربية من التوابل والمواد العطرية إلى أنحاء متفرقة من العالم القديم  .  كما تشير تلك المصادر أيضًا إلى أن سكان الجرهاء كانوا آنذاك على درجة عالية من التنظيم السياسي والاقتصادي؛ مما جعل الملك السلوقي أنتيخوس الثالث يحاول غزوهم عام 205 ق.م. لكن دبلوماسية أهل الجرهاء حالت دون ذلك  . 
وقد كشفت التنقيبات الأثرية في موقع ثاج عن مدينة أثرية مسورة تضم كثيرًا من الآثار المهمة التي تنتمي إلى النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد  ،  وقد شهدت ازدهارًا اقتصاديًا كذلك خلال الفترة المعاصرة للحكم السلوقي في بلاد الشام. وتشير دراسة مقابر موقع ثاج  ومعطيات الطبقات الرئيسة لمساكنها  ،  فضلاً عن المعثورات الأثرية التي عُثِر عليها في امتدادات هذا الموقع؛ إلى مظاهر حياة متكاملة وفاعلة استمرت ما يقرب من ألف عام؛ بين القرنين السادس قبل الميلاد والثالث الميلادي  ،  ما يعبِّر عن مقومات مستوطنة مثالية قامت حياة أهلها حول مصادر مياه عذبة وغزيرة تمثلت فيما يزيد على 20 بئرًا، قامت عليها زراعة النخيل وغيرها من الزروع المثمرة، حتى إنها أضحت موردًا لقبيلة تميم قبيل ظهور الإسلام، وفي العصر الإسلامي المبكر  . 
ووُجدت دلائل على سك عملات محلية خلال العصر الهلينستي تعود إلى نهايات الألف الأول قبل الميلاد وبدايات الألف الثاني الميلادي في عدد من المواقع بالمنطقة الشرقية؛ منها ثاج وجبل كنـزان الواقع شمال شرق الهفوف  . 
وتدل بقايا المنشآت الحجرية، وكذلك المعثورات الأثرية من موقع الدفي بجوار الجبيل على وجود مستوطنة سكانية من عصر الممالك العربية الوسيطة (300ق.م - 300م تقريبًا)  .  وكُشف كذلك في كل من واحتَي القطيف والأحساء عن شبكة من قنوات الري يصل طولها إجمالاً إلى نحو 10كم تقريبًا، تجري أجزاء منها فوق سطح الأرض، في حين تكون أجزاء أخرى محفورة تحت السطح، ما يدل على هندسة متطورة أبدعها إنسان تلك الفترة في نهاية الألف الأول قبل الميلاد في فترة الممالك العربية الوسيطة، واستغلها من أجل زيادة إنتاجه الزراعي  . 
 
ب - الاستيطان في الإقليم الشمالي:
 
وُجدت في الأجزاء الشمالية من المملكة عيِّنات من أقدم الأدوات الحجرية التي صنعها الإنسان في العالم القديم وهي تُعرف باسم الأدوات الألدوانية، وقد عُثر على هذا النوع من الأدوات للمرة الأولى في المملكة، في مواقع تقع بجوار كل من: الشويحطية قرب سكاكا شمالاً، ونجران جنوبًا  ،  وتُؤرَّخ جميعها بحدود مليون إلى مليون ونصف المليون عام قبل الميلاد. ومنذ تلك الفترة شهد أغلب مناطق المملكة حراكًا استيطانيًا متواصلاً لم ينقطع على مر العصور، ومنها منطقتا حائل والجوف، واستمر ذلك طيلة العصور التالية بشكل كثيف دلت عليه البقايا الأثرية المنتمية إلى مختلف فترات العصور الحجرية: القديمة، والوسيطة، والحديثة، وظل الأمر كذلك مستمرًا خلال العصور التاريخية. ويمكن تناول الاستيطان في الإقليم على النحو الآتي:1 - الاستيطان في حائل:
وفَّرت المقومات الطبيعية والبيئية ظروفًا مناسبة لتواصُل الاستيطان في حائل منذ عصور ما قبل التاريخ، ونظرًا إلى أن أغلب مواقع عصور ما قبل التاريخ هي مواقع سطحية تنقصها المواد العضوية والفخار؛ فقد أدى هذا إلى صعوبة تحديد الحقب الزمنية خلال تلك العصور، ولكن المنشآت المعمارية في جبال أم سلمان وعنيزة وشويحط ومويعز تقف شاهدًا على نمط من أنشطة الإنسان خلال العصر الحجري الحديث  .  كما تشير المعثورات الأثرية في جُبَّة - خصوصًا المصنوعات الحجرية المتمثلة في المكاشط المصقولة والسواطير والمجارف - إلى تواصل الاستيطان في الموقع خلال العصر البرونـزي  .  وتظل الرسوم الصخرية من أبرز الشواهد الأثرية على استمرار الاستيطان الحضاري في حائل. كما أنها في الوقت نفسه تقدم شواهد تاريخية عن الإنسان ونمط حياته الفكرية والاجتماعية آنذاك. وإذا ما استثنينا الرسوم الصخرية في موقع الشويمس  ، وبعض الرسوم الصخرية من موقع جُبَّة مثل بعض مناظر تصوير الثيران الضخمة ومناظر صيد الحيوانات المتوحشة التي يُرجَّح أنها تعود إلى العصور المبكرة قبل التاريخ التي سادت فيها أحوال مناخية مطيرة نسبيًا؛ فإن أغلب الرسوم الصخرية التي تنتشر بكثرة على صفحات جبال المواقع الأثرية في منطقة حائل تعود إلى العصور التاريخية؛ أي منذ فترة العصر النحاسي، وتستمر خلال فترة الألف الأول قبل الميلاد، والقرون الميلادية اللاحقة. فضلاً عن ذلك فإن النقوش الثمودية التي تنتشر بكثرة في مواقع متفرقة من منطقة حائل هي أيضًا من الشواهد المهمة على كثافة الاستيطان في المنطقة، والتفاعل مع البيئة واستثمار مقوماتها في تطوير سبل الحياة المعيشية.
وهكذا تبرهن شواهد التاريخ على أن منطقة حائل شهدت تواصلاً استيطانيًا حضاريًا منذ عصور ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية، حتى أشرقت شمس الإسلام على المنطقة وسكانها.
 
 الاستيطان في الجوف:
 
عُثر في موقع (الرجاجيل) على مجموعة كبيرة من الدعامات الحجرية المربعة التي تُؤرَّخ بفترة الألف الرابع قبل الميلاد  ،  وتتوزع في مجموعات متجاورة لكونها شواهد على منشآت دينية على الأرجح، مايدل على حركة عمران متواصلة خلال تلك الفترة، تشهد عليه أيضًا المنشآت الحجرية، والمقابر ذات الأشكال الدائرية. والأدوات الحجرية، وبقايا الأواني الفخارية  
ولسبب غير معروف حتى الآن تنقطع الدلائل المادية على الاستيطان في منطقة الجوف خلال العصر البرونـزي، ثم تعود إلى الظهور بقوة مع أوائل الألف الأول قبل الميلاد، ولعل مزيدًا من أعمال المسح الأثري والتنقيب تصلُ هذا الانقطاع في الشواهد الأثرية وتسدُّ نقص الأدلة، خلال فترة الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، وتكشف عن نشاط استيطاني متتابع في هذه المنطقة ذات المعطيات البيئية والجغرافية المناسبة للاستيطان المتواصل.
ووفق ما تشير إليه شواهد النصوص الآشورية فقد عايشت الأجزاء الشمالية - وخصوصًا منطقة الجوف، وعلى امتداد وادي السرحان. منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد - استيطان مجموعات سكانية وقبلية كثيفة. واستطاعت آنذاك أن تتوحد تحت زعامات مركزية قوية. تمكنت من الوقوف ضد محاولات حكام الدولة الآشورية لفرض سيطرتهم على المنطقة حتى سقوط دولتهم عام 612ق.م.
وعلى ما يبدو فإن المنطقة شهدت بعد ذلك استقرارًا سياسيًا وازدهارًا اقتصاديًا. فشواهد التاريخ لا تشير إلى أن حكام المنطقة - وخصوصًا مملكة قيدار العربية التي اتخذت من دومة الجندل حاضرة سياسية ودينية لها - دخلوا في صراع مع الدولة البابلية أو الدولة الفارسية من بعدها  . ولعل تواصل الاستيطان المنظم في المنطقة وازدهارها اقتصاديًا هو ما دفع ملوك الدولة النبطية إلى مدِّ نفوذهم السياسي منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد إلى منطقة الجوف. وتنبئ مضمونات النقوش النبطية التي كُشف عنها في أرجاء متفرقة من المنطقة عن أنها شهدت خلال عصر دولة الأنباط نموًا سكانيًا واقتصاديًا وعمرانيًا. فقد كشفت المسوحات الأثرية عن إقامة بيوت عبادة جديدة في دومة الجندل، وعن عينات من الفخار النبطي والعملات النبطية؛ في كثير من المواقع في المنطقة  .  ويُستدل من النقش اللاتيني الذي كُشف عنه في دومة الجندل على أن الرومان بعد قضائهم على الدولة النبطية في مطلع القرن الثاني الميلادي مدوا نفوذهم إلى المراكز الحضارية في وادي السرحان  . 
ثم دخلت المنطقة في فترة التبعية الاسمية - أو الولاء - لحكام منطقة شمال الجزيرة العربية، أو ما يُسمى بالممالك الحاجزة الواقعة تحت النفوذ الأجنبي الذي تأرجح بين الفارسي مثل مملكة الحيرة، والبيزنطي مثل مملكة الغساسنة التي دان حكامها وبعض أهلها بالنصرانية دين البيزنطيين آنذاك  .  واستمر ذلك حتى القرن السادس الميلادي. حين دخلت منطقة الجوف ضمن حدود مملكة كِندة. وكان يحكم دومة (الجندل) - قبيل ظهور الإسلام - الأكيدر بن عبدالملك السكوني الكِندي. حتى وصلت الفتوحات الإسلامية إلى المنطقة، وفُتحت الجوف في عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بجيش قاده خالد بن الوليد رضي الله عنه في منتصف القرن السابع الميلادي الأول الهجري  
 
الاستيطان في الإقليم الأوسط (الرياض):
 
ترجع الدلائل المؤكدة لاستيطان منطقة الرياض إلى فترة الحضارة الآشولية قبل نحو 230،000 سنة تقريبًا، فقد وُجدت في صفاقة قرب الدوادمي  كمية كبيرة من الأدوات الحجرية المنتمية إلى تلك الفترة، إلى جانب مواقع آشولية مهمة أخرى، سواء بقرب مطار الملك خالد، أو سهل هضبة العرمة.. وغيرهما  .  في حين تشير الشواهد البيئية والمناخية إلى وجودٍ بشري أقدم من ذلك بكثير  .  وقد استمرت الدلائل الاستيطانية بالمنطقة قائمة طيلة ما تلا ذلك من عصور حجرية. وفق ما تنبئ عنه المنشآت المعمارية الحجرية ذات الاستخدامات السكنية والمعيشية والمقابر في مواقع وادي حنيفة والخرج وغيرها  ،  ومنها المقابر المذيَّلة والدوائر الحجرية.
وخلال فترة الممالك العربية شهدت منطقة الرياض تفاعلاً حضاريًا، كما حدثت بها تحولات سياسية ذات شأن، فقد تحول عدد من المستوطنات الكبيرة - مثل (البنّة) - إلى دويلات وممالك، كما سكنت اليمامةَ قبيلتا طسم وجديس، ويُروى في الأثر أن فتنةً نشبت بين القبيلتين لظلم ملكهم عمليق من طسم وتجبُّره، أدت إلى مقتل الملك، فلجأت طسم إلى الملك الحِمْيَري حسان لنصرتهم ضد قبيلة جديس  .  فكان لهم ما أرادوا بعد احتياله على قوة إبصار زرقاء اليمامة، ثم فقئه عينيها حسب الحادثة الشهيرة  . 
ولم تلبث - بعد ما يقرب من قرن من الزمان - أن قامت في جنوب غرب منطقة الرياض مملكة عربية فتية هي مملكة كِندة التي اتَّخذت من قرية (الفاو)  - وهي إحدى المحطات التجارية الرئيسة على الفرع الشرقي لطريق البخور - حاضرة لها، واستمرت أدوارها التاريخية والحضارية حتى القرن الرابع الميلادي، وخلال هذه المدة مرت مملكة كِندة بفترات قوة ظهر فيها حكام مثل الملك ربيعة ذو آل ثور. والملك معاوية بن ربيعة. والملك مالك بن بُدّ. ووفق ما كشفت عنه التنقيبات الأثرية في موقع قرية (الفاو) يتَّضح أن سكان الموقع كانوا على جانب كبير من التحضر الفكري والاجتماعي. وعاشوا آنذاك في رغد من العيش والثراء الاقتصادي  .
وبعد اضمحلال مملكة كِندة نـزح أهلها شمالاً مؤيَّدين بدعم من ملوك حِمْيَر لتقوية دور الممالك الحاجزة في شمال الجزيرة ووسطها، فسكنوا مناطق متعددة من شمال جزيرة العرب ووسطها، منها: القصيم، وسدير، وحفر الباطن، ودومة الجندل... وغيرها، وكان لهم نفوذهم فيها حتى تلقب بعض كبارهم بلقب الملك في إشارة إلى القوة والنفوذ الذي تمتعوا به آنذاك، وهو ما يُسمى في التاريخ مملكة كِندة الثانية. ومن أشهر من خُلعت عليهم ألقاب المُلك من كِندة في تلك الفترة - أي منتصف القرن الخامس الميلادي - حجر بن عمرو، الملقب بآكل المرار  ،  الذي جاء - حسب رواية اليعقوبي   - من بعد خمسة من أسلافه، واقترنت سلطته بحدود مكانية معينة، فقد اتخذ حاضرته - على الأغلب - في عالية نجد في بطن عاقل بالقرب من وادي الرُّمة، ووطد دعائم حكمه بعقد معاهدات وإتمام مصاهرات مع عدد من بطون القبائل العربية، ثم تبعه بعض خلفائه، ومن أهمهم حفيده الحارث بن عمرو بن حجر الذي حكم في أواخر القرن الخامس حتى مطلع القرن السادس الميلاديين (495 - 528م)، ودانت له بقعة شاسعة من وسط الجزيرة وشمالها وجنوبها، حتى طالت الحيرة نفسها شمالاً  .  وبعد أن تكالبت ضغوط خارجية وظروف داخلية في فترة حكم ابنه حجر وأسفرت عن مقتله من قِبَل بني أسد. حاول ابنه - وهو الفارس الشاعر امرؤ القيس بن حجر بن الحارث - استعادة المُلك وطلب ثأر أبيه بمساندة بني بكر بن وائل، لكنه مات دون ذلك عام 541م  ،  ولم تتحقق أحلامه التي تطلَّع إليها في شعره، ثم لحقت الهزيمة بمن خَلَفه في السيادة حتى عاد كثير ممن بقي من كِندة - وقد زادوا على ثلاثين ألفًا حسب بعض الروايات   - إلى مواطنهم الأصلية في اليمن بعد ذلك بعامين أو ثلاثة.
وقد هاجرت قبيلة بني حنيفة في أواسط القرن السادس الميلادي إلى حجر اليمامة بقيادة زعيمهم عُبيد بن ثعلبة بن يربوع الحنفي، وبسطوا سيطرتهم وامتدت أسباب معيشتهم على أغلب وسط الجزيرة العربية، وخلال هذه الفترة أصبحت مدينة حجر مركزًا تجاريًا على طريق التجارة القديم، وكانت تُقام فيها واحدة من أسواق العرب هي سوق حجر، وتبدأ في يوم عاشوراء إلى آخر محرم  .  وقد شهد وسط الجزيرة العربية في تلك الفترة بعضًا من أيام العرب وسجالاتها المعروفة، منها: يوم فيف الريح، ويوم الكلاب الثاني، ويوم الغبيط، ويوم قساوة، ويوم المروت... وغيرها. كما اشتهر من سادة بني حنيفة وزعمائهم في تلك الفترة مسلمة بن قتادة، وهوذة بن علي، ومرارة بن مجاعة صاحب قرار منع تصدير الحنطة من اليمامة إلى مشركي قريش  . 
 
شارك المقالة:
74 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook