يُراد بالاعتكاف؛ طُوْل المُكث واللبث في المسجد، وعدم الخروج منه إلّا لضرورةٍ أو حاجةٍ ما، وانشغال العبد بما يحقّق له القُرب من الله -تعالى-؛ بالعبادات والطاعات، كالصلاة، والاستغفار، والذِّكر، وقراءة القرآن، والتسبيح، وبذلك يغتنم المسلم وقته في التقرُّب من الله -سبحانه-، مُقتدياً في ذلك بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ كان شديد الحرص على الاعتكاف، والخُلوة بالنفس؛ عبادةً وقُرباً من الله -سبحانه-، وممّا يدلّ على حِرصه ما رُوِي عن أنّه ترك ذات مرّةٍ الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لعارضٍ ما، فقضاه في العشر الأوائل من شهر شوّال.
كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يعتكف في شهر رمضان المبارك، وخاصّةً في العشر الأواخر منه، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: (أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ)؛ والسبب في ذلك التماس ليلة القدر، كما رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُجَاوِرُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ ويقولُ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ).
كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يلتزم بالمكان الذي خصّصه للعبادة، ويتعبّد لله -تعالى- بمختلف العبادات والطاعات، كالصلاة، وتلاوة القرآن، والذِّكر، وكان لا يتحدّث مع أحدٍ إلّا لحاجةٍ أو ضرورةٍ، وكذلك لم يدخل أيّ حُجرةٍ لزوجاته إلّا لحاجةٍ ما. كما أنّه -عليه الصلاة والسلام- كان يحافظ على نظافته؛ فعن السيّدة عائشة -رضي الله عنها- أنّها: (كَانَتْ تُرَجِّلُ، تَعْنِي رَأْسَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي حَائِضٌ، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ في المَسْجِدِ).
واظب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على الاعتكاف في شهر رمضان، وحثّ صحابته -رضي الله عنهم-، وزوجاته -رضي الله عنهنّ- عليه، بدليل ما رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ)، ولم تُحدَّد العشر الأواخر فقط؛ إذ ورد أنّه اعتكف في العشر الوُسطى؛ بدليل ما رُوي عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَعْتَكِفُ في العَشْرِ الأوْسَطِ مِن رَمَضَانَ)، كما رُوي أنّ النبيّ اعتكف ذات مرّةٍ عشرين يوماً، وكان ذلك قبل وفاته؛ بدليل ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (فَلَمَّا كانَ العَامُ الذي قُبِضَ فيه اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا).
وعُلِّل اعتكاف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم عشرين يوماً قبل وفاته بعدّة أسبابٍ، منها: أنّه كان يتدارس القرآن مع جبريل -عليه السلام- مرّةً كلّ عامٍ، و قد تدارساه في العام الذي قُبِض فيه مرّتَين، فلزم ذلك الاعتكاف عشرين يوماً، وقِيل لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان قد أحسّ باقتراب أَجَلِه، فرَغِبَ في الاستكثار من العبادات، والأعمال الصالحة، وقِيل إنّه اعتكف عشرين يوماً؛ شُكراً الله -سبحانه- على ما أنعم به عليه، وبما فضّله به، وكان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يبدأ اعتكافه ويدخل مُعتكَفَه بعد صلاة الفجر كما رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا أرادَ أن يعتَكِفَ صلَّى الفجرَ ثمَّ دخلَ معتَكَفَهُ).
اتّخذ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من المسجد مكاناً للاعتكاف، ولم يعتكف في أيّ حُجرةٍ من حُجراته، على الرغم من قُربها ولحوقها بالمسجد، بل جعل مكاناً خاصّاً له في المسجد للاعتكاف؛ ودليل ما سبق ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه من أنّ أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (كَانَتْ تُرَجِّلُ، تَعْنِي رَأْسَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي حَائِضٌ، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ في المَسْجِدِ) -وهو الحديث الذي ورد سابقاً-.
يحرص المسلم على اتّباع سُنّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وانتهاجها؛ لما يترتّب على ذلك من الأجر العظيم، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، ومن السُّنَن الواردة عن النبيّ الاعتكاف، والذي يترتّب عليه العديد من الثمار، بيان البعض منها فيما يأتي:
موسوعة موضوع