آثار العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
آثار العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

آثار العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
استفادت الجماعات البشرية في منطقة الباحة من الخصائص المتعددة التي يوفرها التباين الطبوغرافي المتمثل في وجود المناطق الجبلية والسهلية، كما استفادت من قربها من البحر الأحمر وما يوفره من موارد غذائية  .  إن ما توفره المناطق الجبلية المعروفة باسم (السراة) من حماية طبيعية للجماعات البشرية، يساعد بشكل كبير على استمرارية الجماعات البشرية في المنطقة، ويعينها على تكييف نفسها مع الأحوال البيئية للمنطقة. في حين يستفاد من الموارد الغذائية والمواد الخام التي توفرها المناطق السهلية المعروفة باسم تهامة في الأوقات التي تكون فيها تلك الجماعات أقل تهديدًا من قبل الجماعات الأخرى، أو العوامل المناخية الشديدة البرودة التي تسود الجبال في أشهر الشتاء.
 
إن ممارسة الجماعات البشرية أنشطتها اليومية قد بدأ يتطور من حيث التقنيات المستخدمة والأساليب المتبعة في الحصول على الغذاء. وقد انعكس هذا الأمر بشكل جلي وواضح على بقايا الأدوات الحجرية التي تزخر بها المواقع الأثرية، حيث أصبحت أكثر فاعلية في تنفيذ الأغراض المراد القيام بها من جهة، وأكثر تنوعًا وتخصصًا من جهة ثانية، كونها ترتبط بتنفيذ مهمات محددة، بدلاً من أن تستخدم الأداة الواحدة للقيام بعدة مهمات في آن واحد. كما تغير الشكل الخارجي للأدوات الحجرية وحجم الأداة لحدوث تطور في التصنيع يستلزم تصغير حجم الأدوات عمّا كانت عليه في السابق، لضمان فاعلية أكثر تأثيرًا في تحقيق المهمة المطلوبة.
 
وفي المراحل الأخيرة من فترات العصور الحجرية تطورت تقنية التصنيع لدرجة كبيرة، حيث صغر حجم الأدوات الحجرية وأصبحت أكثر تخصصًا في أعمالها، وتم التركيز على أنواع محدودة من الأحجار الخام، وبخاصة الصوان والشيرت والأوبسيديان، لكونها أكثر ملاءمة لصناعة أدوات دقيقة وصغيرة الحجم.
 
إن طبيعة عيش الجماعات البشرية ونمطه في فترات العصور الحجرية، يتميز بعدم ارتباطه بمنطقة جغرافية معينة، أو إقليم بيئي واحد، بل تعدى ذلك إلى ارتباطه بكل مكان يمكن للجماعات البشرية أن تصل إليه. وقد أثبتت الدراسة الأثرية والأثنوغرافية قدرة جماعات ما قبل التاريخ على التنقل لمسافات تصل إلى مئات الكيلومترات في غضون أيام قليلة بحثًا عن المكان الآمن، أو مصادر الطعام الوفيرة. وعلى عكس الحال بالنسبة إلى الفترات التاريخية التي تتميز باستقرار الجماعات البشرية في منطقة جغرافية واحدة وتأسيس القرى والمدن، فالحال تختلف بالنسبة إلى جماعات عصور ما قبل التاريخ التي تعتمد في حياتها على التنقل الدائم والمستمر بحثًا عن الموارد الغذائية الكافية، وهربًا من المخاطر التي تهدد حياتها بدرجة كبيرة.
 
والجماعات البشرية في ذلك العصر لم تكن مرتبطة جغرافيًا بمنطقة الباحة فحسب، بل ربما تقلبت بين عدة مناطق من أجل استمرارها في العيش؛ ولهذا، فإن الفترات الحضارية التي مرت بها الجماعات البشرية في منطقة الباحة قد تكون ممثلة على نطاق جغرافي واسع.
 
إن تقسيمات العصور الحجرية في منطقة الباحة لا تخرج عن التقسيم العام لفترات العصور الحجرية بمناطق الجزيرة العربية التي تتفق عمومًا مع تلك التقسيمات الشائعة في عدد من مناطق العالم القديم. فأقدم هذه العصور هو العصر الحجري القديم، يليه العصر الحجري الحديث، وينقسم العصر الحجري القديم إلى ثلاثة أقسام فرعية، هي: العصر الحجري القديم الأسفل، والعصر الحجري القديم الأوسط، والعصر الحجري القديم المتأخر. 
 

 العصر الحجري القديم

 
يُعد هذا العصر أقدم فترات الوجود البشري التي عرفها العالم القديم عمومًا، ووجدت له دلالات مؤكدة في الجزيرة العربية، وبخاصة ما أظهره برنامج المسح الأثري الشامل الذي قامت به وكالة الآثار والمتاحف خلال العقدين الماضيين. ويوجد عدد من المواقع الآشولية (الحضارة الآشولية تعود إلى العصر الحجري القديم الأسفل)  في أجزاء مختلفة من المنطقة الجنوبية الغربية للمملكة، كما في موقع تثليث في منطقة عسير، موقع 217 - 15 الذي احتوى على عدد من الفؤوس اليدوية والنوى والسواطير والشظايا المصنوعة من الصخور البركانية بأسلوب المطرقة الصلبة. وفي موقع آبار حمى بمنطقة نجران عدد من المواقع الآشولية التي تحوي أدوات من بينها الفؤوس الحجرية والسكاكين والسواطير والأنصال والشظايا  .  لقد تميزت الأدوات الآشولية بوجود طبقة داكنة من العتق تغطي أسطح الأدوات الحجرية، وهي دلالة على مرور فترة زمنية أعقبت صناعة هذه الأدوات فضلاً عن تعرضها للعوامل الطبيعية المختلفة.
 
وفي فترة الحضارة الموستيرية التي تعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، حدث تقدم كبير في نواحي الحياة المتعددة للجماعات البشرية التي استوطنت منطقة الباحة، وظهر ذلك جليًا في عدد من النواحي، أهمها تغير التقنية المستخدمة في صناعة الأدوات الحجرية، وكذلك نوعيتها. وقد تمثل هذا التغير في صغر حجم الأدوات الحجرية عمّا كانت عليه في الحضارة الآشولية، وما ترتب على ذلك من ظهور استخدامات جديدة للأدوات الحجرية ساعدت في إيجاد تقنيات أكثر فاعلية في تنفيذ المهمات المراد القيام بها.
 
لقد تميزت الحضارة الموستيرية بالتركيز على استخدام الشظايا الحجرية، وهي الأدوات التي لا يتجاوز طولها ضعفي العرض. وتشتمل الأدوات الموستيرية  على أنواع ذات مهمات مختلفة، مثل: المكاشط، والسكاكين، والمسننات، والأنصال، والمحكات، والمناقيش، والمخارز، والمثاقب وغيرها. كما تميزت بعض الصناعات الموستيرية بوجود تقنية استخدام النواة الليفلوازية التي تعتمد على صناعة أداة حجرية واحدة فقط من النواة الليفلوازية التي إما أن تكون شظية ليفلوازية، أو رأسًا ليفلوازيًا. كما وجد نوع آخر من التقنيات التي استخدمت في فترة الحضارة الموستيرية، وهي الصناعات الحجرية الموستيرية التي تحمل تأثيرات آشولية متمثلة في وجود الفؤوس الحجرية إضافة إلى المصنوعات الحجرية الأخرى التي ترتبط بالحضارة الموستيرية  .  ويعتقد أن بعض الأدوات التي استخدمت في هذا العصر تنتمي إلى الحضارة الآشولية، وقد تمت إعادة استخدامها بناءً على التباين في طبقة العتق بين التشظية الجانبية القديمة والحديثة.
 
لقد تركز عيش الجماعات البشرية في المناطق المرتفعة بوجه عام، وبخاصة في المناطق المطلة على الأودية والمناطق السهلية. أما في المناطق التي تخلو من أحجار الصوان والشيرت الطبيعي، فإنه غالبًا ما يتم استخدام الأحجار البركانية الأكثر صلابة في تصنيع الأدوات الحجرية، مثل: الرايوليت والإندسيت والبازلت، إضافة إلى الكوارتز وغيره  
 
وأظهرت المسوحات التي تمت في المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة وجود عدد من المواقع الموستيرية ذات التقليد الليفلوازي التي تحوي أنواعًا مختلفة من الأدوات التي تميز هذه الصناعة الحجرية، مثل: الشظايا والنوى الليفلوازية ذات الشكل القرصي. ووجد عدد من المواقع الموستيرية وأبرز ما عُثر عليه في موقع آبار حمى بمنطقة نجران، الموقعان 217 - 17 ج، و 217 - 21، حيث احتوى هذان الموقعان على أدوات حجرية صنعت من حجر الرايوليت، وتضمنت نوى حجرية وليلفلوازية وأنصالاً ليفلوازية وأخرى مسطحة ومصقولة ومثاقب ومناقيش ومسننات   وتدل كثرة المواقع الموستيرية التي استخدمت فيها أحجار الرايوليت على اعتماد الجماعات البشرية على المواد الخام المحلية بشكل كبير، وتطويعها لاحتياجاتهم اليومية ومنها: صنع الأسلحة والأدوات.
 
وكما هي الحال بالنسبة إلى انتشار المواقع الموستيرية في المناطق الداخلية، فقد وجد عدد من المواقع بالقرب من سواحل البحر الأحمر، وعلى امتداد سواحله. كما ارتبطت بعض هذه المواقع بمناطق انتشار الحمم البركانية، وربما يعود ذلك إلى أسباب مرتبطة بأمن هذه الجماعات وضمان سلامتها. وقد تضمنت بعض المواقع الساحلية كميات من الأدوات الموستيرية أبرزها: الأنصال والرقائق والمسننات والمناقيش والنوى الحجرية والمفارم وغيرها  
 
وفيما يخص الجزء المتأخر من العصر الحجري القديم، فإن هناك غيابًا ملحوظًا للبقايا الأثرية التي تنتمي إليه؛ حيث لم تشر المسوحات التي قامت بها وكالة الآثار والمتاحف في الماضي إلى وجود صناعة حجرية ذات خصائص محددة يمكن اعتبارها دلالة على وجود هذا العصر. وغالبًا ما تكون هناك صناعة حجرية تحوي بعض خصائص الصناعة الموستيرية، وبعض الأدوات الأخرى. ومن التفسيرات المتداولة في هذا الشأن:
 
" يبدو هنا أن الصناعات الموستيرية بالإضافة إلى عدد من الأدوات الجديدة قد استمرت في شبه جزيرة العرب إلى أن جاءت فترة الجفاف التي حلت بالمنطقة قبل 20 ألف عام مضت، ولم تنفرج إلا بحلول فترة مطيرة تزامنت مع بداية عصر الهولوسين قبل 9 آلاف عام تقريبًا، وبالإضافة إلى ذلك فإن الجزء المتأخر من العصر الحجري القديم في جنوب الجزيرة العربية قد يختلف كثيرًا عن التعريفات السابقة لهذه الحقبة في منطقة الشام وسورية" 
 

العصر الحجري الحديث

 
على الرغم من أعمال المسح الأثري التي تمت في الجزيرة العربية على مدى ثلاثة عقود، فإن طبيعة فترة العصر الحجري الحديث وما يرتبط به من خصائص حضارية لم يتم بعد البتُّ فيها من خلال دراسة علمية شاملة، لذا فإن المعرفة المتوافرة في الوقت الحاضر تشير إلى أن هذا العصر يختلف عما هو عليه في المناطق المتاخمة للجزيرة العربية، خصوصًا منطقة بلاد الشام. ولعل من الفروقات الأساسية غياب مادة الفخار بوصفه عنصرًا أساسيًا ملازمًا لكل البقايا الأثرية التي تعود إلى هذا العصر، مثل: الأدوات الحجرية  
 
ومن ناحية أخرى، هناك غياب ملحوظ لدلائل الاستيطان التدريجي المتمثلة في المساكن والمستوطنات البسيطة التي تأقلمت الجماعات البشرية لاحقًا على العيش فيها. أما الجوانب الخاصة بتغير الوسائل والتقنيات المستخدمة في الحصول على الغذاء وحفظه وإنتاجه، وتحول المجتمع من مجتمع جامع للقوت إلى مجتمع منتج له، فليس هناك دلائل أثرية يمكن الاستعانة بها لمعرفة المكان والزمان اللذين شهدا مثل هذه التطورات. ويعود مردّ هذه العوامل في المقام الأول إلى محدودية النشاط الأثري الذي تم فيما يخص دراسات ما قبل التأريخ، ما انعكس على الكم المعلوماتي المتوافر حول طبيعة النشاط البشري في أجزاء متعددة من المملكة العربية السعودية.
 
ويشير عدد من الباحثين   إلى وجود عدد من مواقع العصر الحجري الحديث في مرتفعات عسير التي تركز وجودها في المضائق وعند سفوح الجبال ومن بينها قمة جبل السودة 217 - 135، 136. ويستمر انتشار هذه المواقع حتى المناطق المنخفضة في منطقة نجران، حيث عثر على المواقع 217 - 72، 74، 77. كما أن هذه المواقع تتشابه إلى حد كبير مع ما تم العثور عليه من أدوات حجرية في موقع آبار حمى ووادي تثليث، ويشمل ذلك المدببات الورقية والأنصال والمكاشط والشظايا وأحجار الطحن التي ندر استخدام الصوان أو الزجاج البركاني في صناعتها. وبالمقابل ربما عرفت الجماعات البشرية بعض نواحي الاستقرار الموسمي أو المؤقت، حيث عثر في بعض مناطق جبال تهامة على مجموعتين من المنشآت الحجرية تتميزان ببساطة تخطيطهما نسبيًا، كما في الموقع 217 - 131.
 
ويشير بعض الباحثين   إلى وجود اختلاف بين صناعات العصر الحجري الحديث في كل من جبال عسير ومنطقة الربع الخالي، لكون المنطقة الأولى تخلو من المدببات  ،  ما يستدعي مزيدًا من الدراسة المستقبلية للخصائص الحضارية لهذا العصر في المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة.
 
ولعلّ أبرز ما يميز منطقة الباحة التطور الذي شهدته في نهاية العصر الحجري الحديث وربما منذ فترة مبكرة من فتراتها التاريخية، حيث توحي بكثافة سكانية دفعتها إلى زيادة استصلاح الأراضي الممكن زراعتها، متمثلة في سفوح مرتفعاتها فيما عُرف بالمدرجات واعتمدت في زراعتها على ما تجود به الأمطار الموسمية في فصل الصيف. وقد صحب بناء تلك المدرجات حفر آبار وشق مجارٍ ووسائل صرف للسيول الجارفة لتأخذ طريقها نحو الساحل.
 
شارك المقالة:
40 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook